بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، وعلى آله وصحبه الشرفاء ، اللهم سدد
رأينا ، وافتح ختم قلوبنا ، وأنر بصائرنا ،
وأجرنا - اللهم - من غوائل أنفسنا ، حتى نبصر الحق فنتبعه ، وينكشف لنا
الباطل فنجتنبه.
أيها السادة الحضور :
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أما بعد/ فموضوع البدعة هو أحد الموضوعات التي أثير حولها
الكثير من الجدل ، ووقع فيها الكثير من الخلط والتلبيس .. و في مقدمة هذه المحاضرة
أود أن ألفت انتباهكم أيها السادة الكرام إلى قضية هامة ، وهي أنه لا ينبغي للمسلمين أن يظلوا عاكفين على الخلافيات ، منكبين على الجدل في الفروع والجزئيات ؛ فتلك غاية مققصودة ، وخطة مرسومة لخصوم الإسلام
، يسعون بشتى الوسائل إلى إقحام المسلمين فيها ؛ بغرض فصم وحدتهم ،
وإشغالهم بالتوافه عن معالي الأمور ،
وصرف أنظارهم واهتماماتهم عن القضايا المصيرية ، وعن مصالحهم الضرورية ، التي
يتوقف عليها حفظ نظام حياتهم ، وبناء حضارتهم ،
وعمارة دنياهم بكل ما يوصل إلى الخير و الكمال الإنساني عاجلا آجلا ... لذلك
ينبغي أن نتفطن لمثل هذه المخططات ؛ لئلا نقع في في
شباكها فنكون أدوات لتنفيذها من حيث
لا نشعر ، لاسيما في هذه
المرحلة الصعبة ، التي كان ينبغي أن تتظافر فيها جهودنا جميعا ؛ لمواجهة التحديات الراهنة ، ومجابهة
المخاطر الواقعة أو المتوقعة علينا .. لكننا للأسف قد شغلنا بأنفسهنا ، بسبب الشبهات السامة التي يثيرها
بعض أبناء جلدتنا المتكلمين بألسنتنا ، والتي
من جملتها رمي المسلمين بالضلال والابتداع
، لأجل الخلاف في مسائل وفروع فقهية ؛ ولما كان هذا المسلك مفضيا إلى آثارسيئة
ومآلات غير محمودة ، كان لا بد من دراسة علمية مؤصلة ومفصلة لحقيقة
البدعة الضلالة ؛ حفظا لعقول الناس وعقائدهم من جهة ، وصونا للشريعة المعظمة من جهة ثانية ، بنفي تحريف
الغالين عنها ، الذين يضعون نصوص الشرع في غير مواضعها ،
أو يحملونها ما لا تحتمل من المعاني.
والإشكالية المطروحة أمامنا في الموضوع :
ما هي حقيقة البدعة الضلالة التي نهى عنها الشرع ، وهل
يصح تقسيم البدعة إلى سيئة وحسنة ؟؟ وهل كل أمر مستجد يعتبر بدعة في الدين ؟ ثم ما هي أهم الضوابط التي تحدد متى يكون الأمر
المحدث بدعة ضلالة ؟ تلك هي أهم الإشكاليات التي سأحاول الإجابة عنها ، من خلال المبحثين
الآتين:
المبحث الأول : مفهوم البدعة
المطلب الأول : تعريف البدعة في
اللغة والاصطلاح :
تعريف البدعة في اللغة
البدعة في اللغة هي كل أمر جديد على غير مثال سابق، والمبتدع هو الشخص الذي
أحدث هذه البدعة ، فإن كانت في الشر فهي
مذمومة ، وإن كانت في الخير فهي محمودة
، كما
قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه)، ولفظ البدعة في اللغة أعمّ من لفظ
البدعة في الشريعة ؛ لأن البدعة في اللغة: تطلق على
ما استحدث في الدين وغيره ،
بخلاف البدعة في الشريعة فهي تطلق على ما استحدث فيي الدين خاصة[1].
تعريف البدعة في الاصطلاح
عرفت البدعة في الاصطلاح الشرعي بتعاريف كثيرة ومختلفة ، لو
ذهبنا نتتبعها لأعيانا إحصاؤها ولن نعود
بطائل ، ولكننا سنتختصر الطريق من خلال ردهها إلى مسلكين أو اتجاهين اثنين ، لن تخرج
عنهما تلك التعاريف مهما كثرت ، ومهما
تنوعت في عبارتها:
المسلك الأول:
هو مسلك الإمام الشافعي والإمام العز بن عبد السلام
وتلميذه شهاب الدين القرافي والنووي وابن حجر العسقلاني ومن وافقهم ، حيث اعتبر
أرباب هذا الاتجاه أن البدعة هي ما لم يفعله النبى صلى الله عليه
وآله وسلم ، ثم قسموها إلى قسمين: بدعة
محمودة وبدعة مذمومة ، فالبدعة عندهم تجرى عليها الأحكام الخمسة ، نذكر
نصين لهؤلاء مما يقوم دليلا على إثبات هذه
الحقيقة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله فيما رواه عنه البيهقي: "المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً أو
سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلالة. والثاني: ما أحدث من الخير، لاخلاف
فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام رمضان
: (نعمت البدعة هذه) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى"[2].
وقال العز بن عبد السلام:"البدعة:
فعل ما لم يعهد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي منقسمة إلى: بدعة
واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة
ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن
دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت
في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة"[3]
والمسلك الثانى:
اقتصر مفهوم
البدعة عند أصحابه على البدعة المحرمة فقط ، وبالتالي فلا تكون إلا مذمومة ، و
لا وجود لبدعة محمودة أو مستحسنة عند هؤلاء. وممن ذهب إلى هذا ابن رجب الحنبلي [جامع العلوم والحكم1/266] وابن
تيميية[اقتضاء الصراط المستقيم1/272] والشاطبي [الاعتصام1/242]. نذكر
أيضا نصين لهؤلاء مما يقوم دليلا على
إثبات هذه الحقيقة.
قال ابن رجب:" والمراد
بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع
يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة"[4]
قال الشاطبي :" فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ
عِبَارَةٌ عَنْ: طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ
بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ "[5]. وقوله
: "مخْتَرَعَة " يعني لا أصل لها في
الشرع.
المطلب الثاني: مناقشة
التعريفات :
من خلال ما سبق من نصوص الفريقين نجد أنهم اختلفوا في أمر واتفقوا
على آخر.
1- اختلفوا في لفظ البدعة كمصطلح شرعي ، هل يصح أن نطلقه على المحدثات
التي لا تخالف الأدلة الشرعية كجمع القرآن
في مصحف واحد أو لا يصح ذلك ؟؟ فالفريق الأول: مزج بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للبدعة ، ومن ثم
قسمها إلى سيئة وحسنة. والفريق الثاني:عرّف البدعة تعريفا شرعيا محضا ، ومن
ثم رفض التقسيمات الخمسة، ورأى أن البدعة كلها مذمومة.
وأرى أن رأي الفريق الثاني هو الأصح لسببين :
الأول:
أنه متلائم مع إطلاق الشارع ، كل بدعة ضلالة
. والثاني: أنه أضبط للمصطلحات ، حيث إذا
اطلق مصطلح البدعة انصرف الذهن مباشرة إلى
المحدثات المخالفة للشرع ، كالمنكر
والمعروف ، المعصية والطاعة ونحوهما.
2- اتفقوا على أن البدعة الضلالة التي نهى عنها الشارع هي ما توافر فيها
شرطان: الأول: أن تكون
حادثة لم تكن في الصدر الأول. والثاني: أن تناقض
أصلاً من أصول الشريعة قرآنًا أو سنة أو إجماعاً.
فإذا اجتمع الشرطان كان الأمر المحدَث بدعة بلا منازع ، وإن لم يجتمع
الشرطان ، بأن كان الأمر غير محدث أصلا بل كان موجودا في الصدر الأول فلا
يكون بدعة ، أو كان
محدثا ولكنه لا يناقض أصلا من أصول الشريعة - بل هو مندج تحت عموماتها - فلا
يكون بدعة أيضا ، كتدوين الحديث النبوي ، وتنقيط
القرآن وشكله ، و تقسيمه إلى أرباع وأثمان ، وكالاحتفال بالمولد النبوي الذي دل
الدليل الشرعي على استحبابه ...
فهذا
المفهوم لحقيقة البدعة لا يختلف فيه الفريقان ، لأن الذين يقولون لا وجود لبدعة حسنة في
الشرع كالشاطبي ؛ إنما يقصدون بذلك أن العمل الذي يخالف الأدلة الشرعية لا يمكن
أن يستحسن شرعاً ، قال الشاطبي [الاعتصام: 246] - مبينا وجهة نظره في عدم وجود
بدعة حسنة في الشرع - :" لأن من حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ
أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلَا
مِنْ قَوَاعِدِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَدُلُّ مِنَ الشَّرْعِ عَلَى
وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ لَمَا كَانَ ثَمَّ بِدْعَةٌ، وَلَكَانَ
الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الأعمال المأمور بها ، أو المخير فيها".
إذن فالشاطبي وابن تيمية وابن رجب ومن وافقهم.. والشافعي و
العز والقرافي ومن وافقهم ... يلتقون في
حقيقة واحدة ، وهي أن المحدثات التي لا تناقض أصلا شرعيا ليست من جنس البدع في
الدين ، إلا أن الشاطبي ومن وافقه يرون ألا يسمى ذلك بدعة حسنة ، وأما الفريق الآخر فلا يرى مانعا من تسميته كذلك ، فالخلاف
بين الفريقين ليس في حقيقة البدعة ، وإنما هو خلاف لفظي ، والخلاف اللفظي لا يترتب
عليه أي أثر.
لكن بعض الإخوة التبس عليهم الأمر ، كيف
يكون الأمر محدثا ثم لا يكون
بدعة ، أوليس هذا مخالفا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" و هذا
الخلط أو هذا الالتباس مرده إلى الجهل بأصول الشريعة ، والوقوف عند ظواهر النصوص دون
الالتفات إلى معانيها ، والمقرر عند أرباب الأصول
بإجماع أن ظاهر النص النبوي لا
يؤخذ به في سبعة مواضع ، منها: أن يكون عاما مخصصا ، ولذلك لم يقف أهل العلم عند ظاهر ، " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وقالوا هو
عموم مخصص بأن تكون المحدثة مناقضة لأصول الشريعة وقواعدها ،واحتجوا بأدلة
منها [6]:
1-
" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"[7] وجه
الاستدلال: أنه إذا كان من أحدث في الدين ما ليس
منه فهو رد ، فبالمفهوم المخالف من أحدث فيه ما هو منه - موافق لأدلته
وقواعده - فهو مقبول غير مردود.
2-
حديث مسلم " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ
أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ
وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ
مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ "
وجه الاستدلال:
أن الأمر المحدث إن كان حسنا فهو مقبول ، وإن كان قبيحا فهو ممنوع ؛ والقبيح هو ما
ناقض أصلا من أصول الشريعة ، والحسن ما وافقها. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى - مبينا
هذه الحقيقة - : "المحافظة على عموم (كل بدعة
ضلالة) مُتَعَيِّنٌ ....... وما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد
الأمرين فيه لازم: إما أن يقال: ليس ببدعة في الدين ، وإن كان يسمى بدعة من حيث
اللغة ، كما قال عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه). وإما أن يقال: هذا عام خصت
منه هذه الصورة لمعارض راجح"[8].
وقال
في موضع آخر : " إما أن يقال: ما ثبت حسنه فليس من البدع... وإما أن يقال:
ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم..."[9].
بالتالي
فقوله صلى الله
عليه وسلم: "
كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" لفظه
عام ومعناه مخصص ، فيكون تقديره على النحو الآتي: " كل
محدثة مخالفة لأدلة الشرع فهي بدعة ضلالة". وعلى هذا التقدير يحمل قول مالك : "من ابتدع في
الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن
الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون
اليوم دينا"[10].
وبالكشف
عن هذه الحقيقة ييتجلى المنزلق الخطير
الذي وقع فيه بعهضم ، حينما وقفوا عند
ظاهر النص وأهملوا الالتفات إلى معانيه ، فاعتبروا أن كل امر محدث بدعة ضلالة تستوجب النار ؛ و من
ثم طفقوا يبدعون المسلمين .... وهذا
المسلك من شأنه أن يفضي إلى تنزيل الأدلة الشرعية على غير ما يناسبها من
الوقائع والمسائل ، أو يبتر الأحكام
الشرعية عن غايتاها ومقاصدها ، ولذلك
حذر العلماء من الوقوف
عندحرفية النص واعتبروه غلوا وجهلا وضلالا
في الدين ، قال الشاطبي :" العمل بالظواهر عَلَى تَتَبُّعٍ وتغالٍ بَعِيدٌ
عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وإِهْمَالَهَا إِسْرَافٌ"[11]. وقال القرافي:" وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ
وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ"[12].
المبحث الثاني : ضوابط البدعة
الضوابط جمع ضابط ، وهو عبارة عن حكم كّلي تندرج تحته فروع وجزئيات متعددة ، فالمراد بضوابط البدعة تلكم الأحكام الكلية
– العامة - التي تحدد مفهوم البدعة وحدودها وتمنع من دخول غيرها فيها ، ولم أجد في
ما تيسر لي النظر فيه من مؤلفات العلماء تنصيصا صريحا على هذه الضوابط وبهذه العبارة ، ولذلك فالضوابط التي
سأذكره لكم ألفاظها من عندي ومعانيها مأخوذة
من تعريفاتهم السادة العلماء للبدعة ، وبيانهم لحقيقتها ، وكشفهم عن مناطها. وأهمها أربعة
ضوابط وبيانها كالآتي:
الضابط الأول: لا ابتداع إلا في الأمور التعبدية
يبين هذا الضابط أن الأمور
المحدثة والمستجدة إنما تعتبر بدعة إذا كانت من المسائل التعبدية ، التي يجب التوقف فيها حتى يأذن
الشرع ،
ومن ثم فمن أحدث شيئًا في بنية الدين وجوهره فهو بدعة ضلالة بلا منازع [فمناط البدعة هو الإحداث والتزيد ففي بنية الدين
وجوهره]سواء كان ذلك الإحداث
في مسائل الاعتقاد
كمذهب المجسمة ، والمرجئة ، والخوارج
... أو كان
في الأقوال كالجهرة بالنية في
الصلاة ، أو كان في السلوكات الظاهرة
كاختراع صلاة زائدة على ما ثبت في الشرع من المكتوبات والنوافل، أواختراع
صيام يوم لفضيلة لم يرد تشريعه في قرآن أو سنة ثابتة ، ودليل هذا الضابط : "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، ووجه الدلالة: ان الشارع ربط
الإحداث بالشؤون الدينية خاصة ، أما
الشؤون الدنيوية فلا يدخلها الابتداع بوجه من الوجوه ؛ لأن الأصل فيها التجدد والاستحداث
، كالمباني والأثاث ، والموائد والملاعق، والألبسة والمراكب ، وسائر الأساليب التي
تنهض عليها مصالح الناس وأنشطتهم السياسة
والعسكرية والثقافية والعلمية
والاجتماعية.
الضابط الثاني: كل محدثة في الدين لا أصل لها في الشرع فهي بدعة ضلالة
ذكرنا في الضابط المتقدم أن من أحدث شيئًا في
بنية الدين وجوهره فهو بدعة
ضلالة بلا منازع ؛
ويأتي هذا الضابط - الثاني - مبينا
ومقيدا للضابط الذي قبله ، حيث أفاد ان المحدثات في الدين إنما تكون بدعة ضلالة إذا كانت مما لا أصل
له في الدين ، كرفع الصوت بالأذكار والقصائد أمام الجنائز ، وكالأذان عند
إدخال الميت قبره ، وما أشبه ذلك. وأما
ماله أصل في الدين فليس ببدعة ولو كان
محدثا ، وقد تقدم دليل هذا الضابط في معرض حديثنا عن تخصيص عموم " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ونصوص العلماء في بيان هذه الحقيقة لا حصر
لها ، وقد ذكرنا طرفا منها في مبحث مفهوم
البدعة ، ومنها أيضا : قول ابن حجر في [فتح الباري13/ 254] :"وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كُلَّ
بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مَا أُحْدِث وَلَا دَلِيلَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ بِطَرِيقٍ
خَاصٍّ وَلَا عَام".
ومن أمثلة ذلك :
1-
الأذان
الثاني للجمعة الذي أحدثه عثمان ، لما زاد عدد الناس وتنوعت أشغالهم ، فدعت الحاجة إلى أذان ثان من أجل تذكيرهم وتهيئتهم للصلاة.
2-
اتخاذ
المراوح في المساجد، وأجهزة التكبير الصوتي
، ودرس الجمعة الذي دعت إليه الحاجة واقتضته المصلحة
الشرعية ، حيث أن خطبتي الجمعة موعظة مجملة ، غير كافية
لتعليم الناس الأحكام الفقهية ونحوها ، و لا تصح فيها المناقشة وطرح الأسئلة ، فاحتيج
إلى إقامة هذه الدروس قبيل الخطبتين لهذا
الغرض المشروع.
3-
اتخاذ مصليات في
المساجد خاصة بالنساء ، وقد كن في عهدي النبوة والخلافة الراشدة
يصلين مع الرجال خلف الصفوف كما هو معلوم ، واليوم صار فصل النساء عن
الرجال في الصلاة ، وتخصيص مصليات لهن في المساجد ، مطلوبا شرعا لاعتبارات
عديدة ، والذي يقول ببدعية درس الجمعة يلزمه أن يقول ببدعيه هذه المصليات أيضا ،
لأنهما سواء من حيث الإحداث ...وكذلك صلاة
التهجد جماعة ... وتنقيط القرآن وشكله ... والآيات
المكتوية على جدران المساجد .. وعلى ضريح النبي صلى الله عليه وسلم.. لذلك ينبغي
أن نكون عقلاء فنقرأ النقل بالعقل
، ونحكم العقل بالنقل.
فكل هذه
الأمور – وما شاكلها - لا تعدّ بدعًا في الدين ، ولو
كانت محدثة ؛ لكونها
جارية وفق قانون الشرع ، دائرة ففي فلك المصالح المرسلة التي تخدم
الدين ، ولا تناقضه
بوجه من الوجوه ، لانطوائها تحت الأصل العام المعبر عنه لدى أرباب الأصول بحفظ
الدين، من جانب الوجود بإقامة أركانه
ودعائمه ، أو من جانب العدم بدرء الخطر أو الخلل المتوقع عليه.
الضابط الثالث:
استحسان ما لم يحسنه
الشرع بدعة ضلالة
سبق وأن أشرنا إلى حديث مسلم " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ
أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ .. " . وأن ابن تيمية قال " إما أن يقال: ما ثبت حسنه فليس من البدع... وإما أن يقال:
ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم... "[13]. ولئلا يُتوهم أن تحسين المحدثات مرده إلى مجرد العقل
ومحض الرأي ، يأتي هذا الضابط موصدا للذرائع أمام
المتقولين في الشريعة بالهوى والتشهي ، فبين أن الحسن ما حسنه الشرع ، وأن القبيح ما قبحه الشرع ،
وليس الحسن ما حسنته العقول ، لأن العقول وإن كانت مدكة للتحسين واالتقبيح ، إلا أنها لا تستقل بإدراك الأحكام الشرعية بعيدا عن وصاية الشرع ، لذلك قرر
العلماء أنه : "متى تعارض العقل والنقل قدم النقل أبدا" ، لأن كثيرا
من الأحكام لا مجال للعقل فيها ، ولا
سبيل له إلى إدراكها ، كإباحة النظر إلى الأمة الحسناء وتحريمه إلى الحرة الشوهاء
، مع أن النفس إلى الأولى أميل منها إلى الثانية ، وكإيجاب قطع اليد في سرقة
القليل ، وعدم إيجابه في غصب الكثير ... وغير ذلك مما لا تدرك العقول وجه الحكمة منه
؛ ولذلك فاستحسان المحدثات إنما يعتبر إذا ما دل عليه الدليل الشرعي ، أما ما لا أصل له في الشرع ، أو كان الأصل بخلافه ، فهو داخل في البدعيات
بلا نزاع وإن رآه الناس حسنا ،
و قد عقد الشاطبي في الاعتصام فصلا كاملا لهذه
المسألة ، بعنوان : "الفرق بين البدعة والاستحسان"
بين فيه بالأدلة أن الاسستحسان عند مالك وأبي حنيفة هو : " الْعَمَل بِأَقْوَى
الدَّلِيلَيْنِ"
وليس مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ أويَمِيلُ
إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ ، ومن
امثلة ذلك : استحسان بعضهم الاجتماع لدى
مقامات الأولياء ، أو في أماكن معينة
يعتقدون قداستها ، بحيث يقومون بذبح النذر
حولها [ وهو ما يسمى في بعض المناطق بالزردة ]
ويقولون أن هذا من الأمور المستحسنة ، إذ
جرت العادة أننا كلما فعلنا ذلك أكرمنا الله بنزول الغيث ورزقنا من كل خير عميم،
فهذا النوع من الاستحسان بدعة ضلالة ، يجب
تحذير الناس منها ، ومثله استحسان الناس الاجتماع في بيت الهالك
وإطعامهم الطعام أياما عددا ، وإقامة أسبوع وأربعنية الوفاة ، وما أشبه ذلك مما لا
أصل في الشرع.
الضابط الرابع:
لا
تبديع في مسائل الاجتهاد
يكشف هذا الضابط عن قضية هامة ، وهي أن الاختلاف في المسائل الاجتهادية لا يجعل أحد
الفريقين مبتدعا ، فلو تنازع إمامان أو فريقان من الإئمة في حكم مسألة
محدثة ، وكان خلافهما فيها من الخلاف المعتبر ، فلا يصح وصف أي منهما بأنه مبتدع ، بصرف النظر عن كونه مخطئا أو مصيبا ،
والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: ما ثبت في الصحيحين"إذا
حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر"، ووجه الاستدلال : أن النبي أثبت الأجر
للمجتهد حتى ولو كان مخطئا في اجتهاده، فلو كان المجتهد المخطيء مبتدعا لما ثبت له
الأجر ، لأن المبتدع مأزور غير مأجور ، بل هو في النار.
والثاني: أن
السلف اختلفوا في مسائل كثيرة ، فما وصف أحد منهم مخالفه بأنه ضال ، أو مبتدع ،
أو فاسق، أو متبع للهوى ، وما هجر أحد منهم مخالفه أبدا ، بل كان الاحترام
والإجلال قائما بينهم في أعلى صوره ، فقد
ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين نحو مائة مسألة ، اختلف فيها عمر وابن مسعود رضي
الله عنهما ، وعلى الرغم من ذلك الاختلاف كان عمر بن الخطاب يقول عن ابن مسعود:
"كنيف ملئ فقهاً أو علماً ؛ آثرت به أهل القادسية".
وكان ابن مسعود يقول عن عمر: "كان للإسلام حصناً
حصيناً ؛ يدخل الناس فيه ولا يخرجون، فلما أصيب عمر انثلم الحصن". لكن لما مات العلامة البوطي رحمه الله ، قال قائل من مخالفيه: " استراحت البلاد والعباد
من شره وضلالاته ..وأن الفرح بموته مطلوب شرعا وتقتضيه الفطرة"
، فقارنوا
أيها السادة بين هذا السلوك وبين سلوك السلف الماضين ؛ لتروا براءة منهجهم من كثير
مما نسب إليه ظلما وزورا.
ومسألة عدم التبديع في مسائل الاجتهاد ، قد انعقد عليها إجماع
العلماء كمال قال ابن تيمية - في مجموع الفتاوى 20/293 - : " فَهَذِهِ
مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ ،
فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَقَرَّ الْآخَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ ، مَنْ كَانَ فِيهَا
أَصَابَ الْحَقَّ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَمَنْ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ
فَلَهُ أَجْرٌ ... فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ لَمْ
يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ مَالِكٍ ، وَمَنْ تَرَجَّحَ
عِنْدَهُ تَقْلِيدُ أَحْمَد لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ
تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ".
وبالكشف عن هذه
الحقيقة ، وبعد هذا البيان الذي ساقه ابن تيمية بعبارته ، يتجلى لكم أن
تبديع المخالفين في مسائل الاجتهاد
هو بدعة مخترعة في الدين ، مناقضة لإجماع الْمُسْلِمِينَ ، ومصادمة لمنهج السَّلَفِ
الْمَاضِينَ.
الخاتمة
بعد هذا العرض الموجز نستخلص جملة
من النتائج:
1-
لاخلاف بين العلماء في أن البدعة
تطلق في اللغة على المحدثات السيئة والمحدثات الحسنة.
2- اختلف العلماء في لفظ البدعة كمصطلح شرعي ، هل يصح اطلاقه على
المحدثات التي لا تخالف الأدلة الشرعية أو
لا يصح ؟ فمن
مزج بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للبدعة قسمها إلى سيئة وحسنة. ومن عرّفها تعريفا شرعيا محضا من غير مراعاة للمعنى اللغوي رأى أن البدعة كلها مذمومة. وقد اخترنا هذا الأخير لتلائمه مع إطلاق الشارع ولكونه أضبط للمصطلحات الشرعية.
3-
اتفق العلماء على أن البدعة
الضلالة هي الطريقة المخترعة في الدين
التي لا أصل لها في الشرع.
4-
اتفقوا على أن المحدثات التي لا
تخالف الأدلة الشرعية لا يشملها مسمى البدعة الضلالة ، وأن قوله صلى الله
عليه وسلم: " كل
محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" لفظه عام ومعناه مخصص ، فيكون تقديره : " كل محدثة مخالفة لأدلة الشرع فهي بدعة ضلالة".
5-
اتفقوا على أن
الا بتداع إنما يكون في الأمور الدينية لا الدنيوية.
6-
اتفقوا على أن
تحسين المحدثات مرده إلى أدلة الشرع لا إلى مجرد العقل ومحض الرأي ، وأن استحسان ما لم يحسنه الشرع يعتبر بدعة
ضلالة ،
وإن رآه الناس حسنا.
7-
اتفقوا على أن الاختلاف في المسائل الاجتهادية
لا يجعل أحد الفريقين مبتدعا متى كان الخلاف
معتبرا.
8-
تبين لنا من خلال هذه الدراسة
أن الوقوف عند ظواهر النصوص وعدم مراعاة معانيها مدعاة للوقوع في الزلل ، والخروج عن مقاصد الشرع ، وأساليب
اللسان العربي ، كما استخلصنا من
هذه الدراسة أن الطوائف التي تبدع وتضلل المسلمين لأجل
الخلاف في المسائل الاجتهادية هي طوائف قد خالفت إجماع الأمة ، وضلت عن نهج
الأدلة الشرعية ، وجاءت
ببدعة مخترعة في الدين لا أصل لها في منهج السلف الماضين.
فقد عرف محمد الخادمي الحنفي البدع بقوله: جمع بدعة خلاف السنة اعتقاداً وعملاً وقولاً، وهذا معنى ما قالوا: البدعة في الشريعة إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ردحذفوذكر أيضاً: أن المعنى الشرعي للبدعة هو: الزيادة في الدين أو النقصان منه الحادثان بعد الصحابة بغير إذن من الشرع.
وبهذا التعريف يعلم أنه لا اختلاف بين تعريف الحنفية للبدعة، وتعريف غيرهم من العلماء من أهل المذاهب الأخرى، فالشاطبي عرف البدعة بقوله: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.
وقوله (تضاهي الشرعية) أي: تشبه الطريقة الشرعية لكنها في الحقيقة مضادة لها، وقد مثل الشاطبي للبدعة بقوله: ومنها: التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، وما أشبه ذلك.
ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شبعان وقيام ليلته. انتهى
ومن الضوابط التي وضعها العلماء للبدعة قولهم: كل عمل لم يعمله النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي له، وعدم المانع من فعله، ففعله بعد ذلك بدعة، وهذا يخرج صلاة التراويح وجمع القرآن من البدعة، لأن صلاة التراويح لم يستمر النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها (جماعة) لوجود المانع، وهو الخوف من أن تفرض.
وأما جمع القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، لعدم وجود المقتضي لذلك، فلما كثر الناس واتسعت الفتوحات وخاف الصحابة من دخول العجمة جمعوا القرآن.
وليعلم المسلم أن البدعة خطرها عظيم على صاحبها وعلى الناس وعلى الدين، وهي مردودة على صاحبها يوم القيامة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" رواه البخاري ومسلم .
وعند مسلم : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" ، وقوله: في أمرنا أي: في ديننا، وقوله: رد أي: مردود على صاحبه كائناً من كان.
وأيضاً: البدعة ضلالة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" رواه النسائي .
نعوذ بالله من البدع ومن النار.
والله أعلم.
شكراً جزيلاً شيخنا الفاضل على هذا التوضيح
حذفشكراً جزيلاً شيخنا الفاضل على هذا التوضيح
حذفشكراً جزيلاً
ردحذفجزاك الله خيرا شيخنا
ردحذفكلامك ونصك الطويل العريض (بلا فائدة ترجى منه ) يلزم بأن هناك بدعة صاحبها في النار وبدعة صاحبها في الجنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل بدعة (كل هنا تفيد العموم) ضلالة وكل ضلالة في النار لكم البدعة و العصيدة
ردحذفو لنا السنة و العقيدة
الإحتفال بالمولد النبوي بدعة تحسبونه علينا وهو عند الله عظيم يا دعاة الضلال وترويج البدع