الحمد لله حق
حمده ، الحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه وإحسانه ، ونسأله المزيد من
أفضاله ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و رسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ"
وبعد / نتوجه
إلى الله تعالى حامدين وشاكرين ، على ما من به علينا من نعمه وما فتح لنا من أبواب
رحمته ، "مَّا يَفْتَحِ اللَّـهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ
فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ"(فاطر35).. فقد غمرتنا في
هذه الأيام المباركات موجة من الثلج الطهور ، فينبغي أن نستشعر جلال هذه النعمة
وأن نقدر صحبها ذا الجلال والإكرام القائل في محكم تنزيله :" وما بكم من نعمة فمن الله " (النحل54). ، ومن أعظم النعم وأجلها : نعمة المطر
ونعمة الماء عموما ، فقد جعل الله تبارك وتعالى مدار الحياة كلها على الماء ، فقال تعالى :" وجَعَلْنا
من الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أفلا يؤمنون" (الأنبياء
30). فالماء هو سبب الحياة في هذه المعمورة ، وبه عُلقت صحة العديد من العبادات ، فبالماء
يزيل المسلم جنابته ، وبه يتوضأ لتكتمل طهارته من الحدثين ؛ كي يتسنى له الوقوف
أمام ربه ومناجاته على أكمل حال في الصلاة ، وليطوف في حجِّه حول الكعبة المكرمة ،
وليلمس المصحف المجيد، وبالماء يزيل معظم ما يصيبه من النجاسات ، وبه ينظف بدنه
وثيابه وسائر أشيائه ...
ولما كان الماء عليه
مدار الحياة والطهارة معا ، فقد جعله الله طَهوراً كلَّه ، فقال سبحانه و تعالى: "وأنزلنا من السَّماءِ ماءً طَهوراً " (الفرقان48). وقال تعالى : " ويُنزِّل عليكم من السَّماءِ ماءً ليُطهِّرَكم
به "( الأنفال11). فبماء السماء - ومنه هذه الثلوج المباركة - تتطهر الأجساد ، وتطهر
الأرض من الجراثيم ومن الأبئة والأمراض ..
وبالماء ينبت
الزرع والكلأ وتخرج الأرض ثمارها ، قال تعالى " وَأَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ"(البقرة22).
ولما كان الماء نعمة
لها كل هذه الأهمية ، كان من الواجب علينا أن نستقبلها بشكر المنعم جل وعلا ، فمن
الناس من يتناول نعم الله وكأنه يسترد حقا مسلوبا منه ، وعلى الرغم من
أن آلاء الله تغمر العباد من كل جانب ،
ونعمه تلاحقهم في كل
نفس يملأ صدوهم بالهواء ، وكل خفقة تدفع الدماء في عروقهم ؟ ولكنهم قلما يشعرون
بذلك الفضل العظيم ، و قلما يشكرون صاحبه الذي أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وهو القائل : "وما بكم من
نعمة فمن الله)
" النحل54). وقال جل
ثناؤه" وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن
الإنسان لظلوم كفار " (ابراهيم34).
"ظلوم كفار" يعني كثير الجحود
لنعم الله ، وقد نبه سبحانه و تعالى في أكثر من آية إلى هذا الجحود المتأصل في
نفوس الكثيرين ، فقال جل ثناؤه: "وقليل
من عبادي الشكور" (سبأ13). وقال أيضا : "وَإِنَّ
رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ" (النمل73).
وهذا السلوك لا
يليق بالمؤمن الذي ينبغي أن يكون حامدا شاكرا لله تعالى ، ممثتلا لقوله جل وعلا
:"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي
وَلَا تَكْفُرُونِ"(البقرة152).
ومتأسيا بأنبياء الله عليهم السلام ، الذين امتدحهم الله وأثنى عليهم بشكرهم ،
فقال تعالى في سيدنا نوح :" ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا". (الإسراء3). وقال عن سيدنا إبراهيم عليه السلام.. " : شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم" (النحل 121) .
أما سلوك الجحود
فهو منته بأصحابه إلى البوار لا محالة ، وقد بين الله لنا سوء عاقبة الذين لم يشكروا نعمه ولم يقدروها حق
قدرها ، فقال تعالى : " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً
كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ"(النمل73). فهذه القرية كانت أرزاقها تأتيها من كل
مكان ، ولما جحدت هذه النعمة ، ولم تشكر الله عليها ولم ترعها حق رعايتها ،
أذاقها الله لباس الجوع والخوف ... وقد ذكر الله لنا قصتها لنأخذ منها العبرة
والعظة.
وقد علمنا الإسلام
كيف نتأدب مع نعمة نزول الغيث ، فمن ذلك:
- أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يتعرض للغيث حين نزوله
ويكشف عن بعض جسده ليصيبه من مائه ، ويعلل ذلك ويبرره بقوله :" لأنه حديث عهد بربه
تعالى"(رواه مسلم).
- وكان إذا رأى المطر قال: "اللهم
صيبًا نافعًا" وسؤاله للمطر النافع إشارة
إلى أن منه ما لا ينفع ، فقد ينزل المطر
وتنزع منه البركة ، كما في الحديث الآخر :"لَيْسَتِ
السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا
وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا". (رواه مسلم). والمراد بالسنة القحط والجفاف.
وقد يكون نزول
المطر عذابا كذلك الذي أهلك قوم نوح ، كما قال تعالى : "فَفَتَحْنَا أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا
ٱلأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى ٱلمَاء عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ". (القمر12). وكذلك الذي أصاب أهل يسبأ حين جحدوا نعمة ربهم
ولم يشكروها ، قال تعالى في شأنهم :" فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ
وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ"(سبأ 16).
- ولهذا فمن التأسي
بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو كل مسلم عند نزول المطر بهذا الدعاء : "اللهم صيبًا نافعًا".
ثم يسأل ربه ما شاء من خير الدنيا والآخرة.
- وقد أرشدنا
عليه الصلاة والسلام إلى أن الدعاء عند نزول الغيث يكون مستجابا ، فقال عليه الصلاة
والسلام : "ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء
وتحت المطر"(رواه الحاكم).
- وإن من
أهم ما ينبغي أن نتستقبل به نعمة الثلوج والأمطار أن نقيدها بشكر الله تعالى ، حتى لا يسلبنا إياها بنزع البركة منها كما
أسلفنا أو بغير ذلك ، قال الله تعالى :" وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ"(الرعد 6).
ولهذا كان سيدنا عمر بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ :" قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ". فكأنه يشبه النعم بالناقة فإذا تركت دون تقييد انفلتت من صاجبها.
ومن شكر نعمة الغيث أن أن نتقي المحظورات ، وأن نتقرب
إلى الله بالطاعات ، وأن نكثر من النوافل والصدقات ، وأن نؤدي زكاة أموالنا ؛ لأن
منع الزكاة يتسبب في حرماننا من نعمة الغيث ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :" ولم يَمنعوا زكاةَ أموالهم إلا
مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائمَ ما أُمطِروا"(رواه ابن ماجه).
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم
سلطانك ، ولك الشكر حتى ترضى ولك الشكر إذا رضيت ، اللهم أتم علينا نعمتك ، وأدم
علينا سترك وعافيتك في عاجلنا وعاقبة أمرنا.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأستغفر الله
لي ولكم ولجميع المسلمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
جزاك الله خيرا سيدي الفاضل على هذه الخطبة القيمة والتي توافقت مع ما نعيشه من نعمة الماء
ردحذفجوزيت وكوفيت
ردحذفبارك الله فيك شيخنا الفاضل
ردحذف