يتساءل بعض الإخوة عن حكم خروج المعتدة عدة الوفاة إلى الحج أو العمرة ، وهناك من صار يتعلل بفتيا لشيخنا أحمد
إدريس رحمه الله أفتى بها في هذا الشأن ، وكأنهم يتذرعون بذلك إلى القول بمشروعية
خروج المعتدة إلى الحج مطلقا ، وإلى العمرة أيضا ، وقد سبق وأن كتبت مقالا بعنوان
:(الفتوى الخاصة لا تعمم) ، نشرته على صفحتي في
الفيسبوك ، وهو منشور في مدونتي الإلكترونية،على هذا الرابط لمن أراد النظر فيه:
ودرءا لبعض الشبهات التي تعتري المسألة المطروحة ، وتصويبا لبعض التأويلات لما
صدر فيها من فتاوى خاصة ، كتبت هذا المقال الموجز الذي بينت فيه أهم ما يتعلق بعدة
الوفاة من أحكام ، ثم ختمته ببيان حكم خروج المعتدة إلى الحج أو العمرة.
تعريف العدة وبيان حكمتها وأنواعها
المراد بالعدة : المدة التي تتربصها
المرأة ؛ تعبداً لله عز وجل ، أو حدادا على زوجها ، أو تأكداً من براءة رحمها ، وهي مأخوذة من العد
والإحصاء ، فيقال : عد الشيء يعده عدا ، وسميت المدة التي تتربصها المرأة عدة ؛
لاشتمالها على عد الأشهر والأيام وإحصائها.
وقد شرع
الله العدة لحِكَم جليلة ، منها : التعبد امتثالاً لأمر الله تعالى ، والتأكد من براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب بعضها ببعض
، وإظهار الحزن على الزوج بعد وفاته ؛ اعترافاً بفضله وإقرارا بجميله .
والعدة نوعان : عدة طلاق ، وعدة وفاة ، وحديثنا هنا ينحصر في عدة الوفاة.
والعدة نوعان : عدة طلاق ، وعدة وفاة ، وحديثنا هنا ينحصر في عدة الوفاة.
حكم عدة الوفاة ودليل مشروعيتها
أجمع الفقهاء الأجلاء على أنه يجب على المرأة الحائل[1]
التي توفي عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا ، صغيرة كانت أو كبيرة ،
مدخولاً بها أو غير مدخول بها[2] ؛ لقوله تعالى
: "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا"[3]. وأجمع السادة الفقهاء أيضا – إلا من شذ قوله[4] - على أنَّ هذه
الآية ناسخة لآية الاعتداد بالحول[5] ، وهي قوله
تعالى : (والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ)
، فقد كانت عدة الوفاة حولاً كاملاً ، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر ، وآية
الاعتداد بالحول وإن كانت متأخرة في التِّلاوة ، فهي متقدمة في النزول ؛ لذلك فهي منسوخة بآية الاعتداد بالأشهر
المتأخرة عنها في النزول.
وقوله
تعالى: (يتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) يعني (والله أعلم
بمراده) ينتظرن مدة أربعة أشهر وعشر ليال بأيامها ، قال الطاهر ابن عاشور المالكي
:" وتأنيث اسم العدد في قوله : (وعشراً ) لمراعاة
الليالي ، والمراد : الليالي بأيامها ؛ إذ لا تكون ليلة بلا يوم ولا يوم بلا ليلة "[6].
وقال ابن عادل الحنبلي :"التَّرَبُّصُ هو: التأنِّي
والتصبُّر عن النِّكاح ، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألاَّ تفارقه ليلاً "[7].
ما ذا يجب على المعتدة خلال فترة العدة؟
وخلال فترة العدة يجب على المعتدة الإحداد على زوجها باتفاق الفقهاء[8] ؛ لما روي عن
أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - : "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي
تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَفَتَكْتَحِلُهُمَا؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا
"، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهَا: " لَا
"، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ
كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ"[9]. وهذا الحديث
يعد أصلا في إيجاب إحداد الزوجة على زوجها المتوفى خلال فترة العدة.
وثبت أيضا في الصحيحين عن أُمِّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ
تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ
إِلا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"[10].
ويجب على الحادة - اتفاقا - أن تَمْتَنِعَ عن الزِّينَةِ الدَّاعِيَةِ
لِلرِّجَالِ إِلَى النِّسَاءِ ، كَالْحُلِيِّ والطِّيبِ،
وَاَلْحِنَّاءِ وَالْكُحْلِ ، وَلِبَاس
ثِّيَابِ الزينة ... وَرَخَّصَ الفقهاء فِي الْكُحْلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ
، واشْتَرَطَ بعْضُهُمُ جَعْلَهُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ[11].
واختلفوا في مقام المتوفى عنها زوجها في مسكنها حتى تنقضي عدتها ،
وخروجها منه ، فقال جمهور الفقهاء : عليها أن تثبت في منزلها حتى تنقضي عدتها ، فلا تخرج منه نهارا
إلا لحاجة ، ولا تخرج منه ليلاً إلا لضرورة كتطبيب ونحوه ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة
وبه قال الليث بن سعد، وسفيان الثوري ، وروي ذلك عن عثمان بن عفان ، وابن مسعود، وابن عمر،
وأم سلمة[12].
وذهب عطاء ، وجابر بن زيد ، والحسن البصري ، إلى أنها تعتد
حيث شاءت ، وأصل هذا المذهب مروي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وجابر بن عبد الله
، وعائشة أم المؤمنين[13].
ولكن ما ذهب إليه الجُمهور من وجوب ملازمة المعتدة لبيت الزوجية هو
الأصح ؛ لما ثبت: "أَن فريعة بنت مَالك أُخْت
أبي سعيد الْخُدْرِيّ قتل زَوجهَا فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسلم - أَن ترجع إِلَى أَهلهَا وَقَالَت : إِن زَوجي لم يتركني فِي منزل (يملكهُ)
فأَذِنَ لَهَا فِي الرّجُوع قَالَت : فَانْصَرَفت حَتَّى إِذا كنت فِي
(الْحُجْرَة) أَو فِي الْمَسْجِد دَعَاني فَقَالَ : امكثي فِي بَيْتك حَتَّى يبلغ
الْكتاب أَجله . قَالَت : فاعتددت فِيهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا"[14]. وهذا الحديث
يعد أصلا في وجوب ملازمة المعتدة لبيت الزوجية خلال فترة عدة الوفاة.
وللطاهر بن عاشور رأي قوي في
المسألة ، حيث يرى أن وجوب ملازمة المعتدة
لبيت الزوجية مأخوذ من القرآن نفسه ، فقال رحمه الله: " والظاهر عندي أن الجمهور
أخذوا ذلك (يعنى عدم خروج المعتدة ) من قوله
تعالى : "والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج)
فإن ذلك الحكم لم يقصد به إلاّ حفظ المعتدة ، فلما نسخ عند الجمهور بهذه الآية ،
كان النسخ وارداً على المدة وهي الحول ، لا على بقية الحكم ..."[15].
يعني أن هذه الآية نصت على عدم خروج المعتدة ، ولما نُسِخت الآية كان
النسخ واردا على المدة وحدها ، حيث نُسخ حكم تربص المعتدة حولا كاملا ، بتربصها
أربعة أشهر وعشرا ، أما حكم عدم الخروج المنصوص عليها فبقي محكما ، أي غير منسوخ ،
ولو كان منسوخا كالمدة لبينته السنة ، بل السنة تثبت بقاءه محكما ، كما تقدم في
حديث فريعة بنت مالك.
حكم خروج المعتدة إلى الحج أو العمرة؟
وننتقل إلى بيان حكم خروج المعتدة عدة الوفاة إلى الحج أو العمرة ،
وهو مما اختلف فيه الفقهاء أيضا ، فذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ من المالكية والْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ
إلَى الْحَجِّ فضلا عن العمرة , وعللوا ذلك بأن الْعِدَّةُ تَفُوتُ والْحَجَّ لا
يَفُوتُ [16]. وروى مالك في موطئه: " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَرُدُّ الْمُتَوَفَّى
عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنْ الْبَيْدَاءِ يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ "[17]، وبهذا قضى
عثمان بن عفان ، وبه قال ابن عمر ، وسعيد ابن المسيب، والقاسم بن محمد ، وسفيان
الثوري ، وقالك مالك :" تُرد ( المعتدة
الخارجة للحج) ما لم تحرم "[18].
وقالت طائفة من أهل العلم : لها أن تحج في عدتها ، وهو
قول عطاء، وطاووس ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ ، وروي ذلك عن عَلِيٌّ ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَة ، وَقَدْ روي أن عائشة :" أَخْرَجَتْ أُخْتَهَا أُمَّ
كُلْثُومٍ حِينَ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى
مَكَّةَ فِي عُمْرَةٍ، وَكَانَتْ تُفْتِي بِالْخُرُوجِ"[19]. فَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: "فَأَخَذَ الْمُتَرَخِّصُونَ
بِقَوْلِ عَائِشَةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ الْعَزْمِ وَالْوَرَعِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ"[20]. وقد حفظنا عن شيخنا أحمد إدريس
رحمه الله أنه أفتى بخروج المعتدة عدة الوفاة إلى الحج ، وإنما كان ذلك بعد خروجها
في قرعة الحج ودفعها لمصارفه ، والظاهر أنه أستند إلى قول المترخصين ، الآخذين
بقول عائشة وابن عباس ، وراعى في ذلك الحرج الناشئ عن دفع تكلفة الحج ، وقد لا
تتاح لها الفرصة تارة أخرى ، بعد أن صار الحج خاضعا للقرعة.
والله تعالى أعلى وأعلم
الهوامش والإحالات
[1] الحائل : هي غير الحامل ، وعدة الحامل المتوفي عنها زوجها ( وضع
الحمل ) لقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
[ الطلاق : 4 ] فالآية هذه قد خصّصت العموم الوارد في قوله تعالى : { والذين
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ . . . } وهذا قول جمهور العلماء . وروي عن علي وابن عباس
رضي الله عنهما أن الحامل تعتدّ بأبعد الأجلين ، بمعنى أنها إذا كانت حاملاً فوضعت
الحمل ولم تنته مدة العدة ( أربعة أشهر وعشر ) تبقى معتدة حتى تنتهي المدة ، وإذا
انتهت المدة ولم تضع الحمل تنتظر حتى وضع الحمل ، فإذا قعدت أبعد الأجلين فقد عملت
بمقتضى الآيتين ، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة ، والجمع
أولى من الترجيح .(انظر روائع البيان تفسير آيات الأحكام ، محمد علي الصابوني ، ج1ص364).
[2]انظر: الإشراف على مذاهب العلماء ، لابن المنذر ج 5 ص 341.
[7] انظر: اللباب في علوم الكتاب ، لابن عادل الحنبلي ، ج 4 ص 190
[9] رواه مسلم في صحيحه رقم:( 1488). والنسائي في
السنن الكبرى رقم :(5734). وابن حبان في صحيحه رقم: (4304). الطبراني في معجمه
الكبير رقم: (425) وغيرهم.
[11] انظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، لابن رشد الحفيد ، ج 3 ص 141 ، وانظر : إرْشَادُ السَّالِك
إلىَ أَشرَفِ المَسَالِكِ فِي فقهِ الإمَامِ مَالِك ، لشهاب الدين البغدادي
المالكي ، ص 72.
[14] رواه مالك في الموطأ
رقم:(1229). والبيهقي في السنن الكبرى رقم:(15275).والطبراني في المعجم الكبيررقم:(1080) . وغيرهم.
[17] الموطأ للإمام مالك حديث رقم :( 1735).
[18] انظر: الإشراف على مذاهب العلماء ، لابن المنذر ج 5 ص 342. والتحرير
والتنوير ، للطاهر بن عاشور ، ج 2 ص 448.
[19] انظر: مصنف عبد الرزاق:حديث رقم: (12054). وانظر: الإشراف
على مذاهب العلماء ، لابن المنذر ج 5 ص 342.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق