دائما
يتساءل الذاهبون إلى زيارة مكة المكرمة عن حكم تكرار العمرة في المسير الواحد عن
أنفسهم أو عن بعض أقاربهم؟ ولكن ربما أخذتهم الحيرة بسبب اختلاف الفتاوى وتناقضها
، فمنها ما يجيز ومنها ما لا يجيز ؟ ولأجل ذلك أردت أن أضع بين يدي القراء الكرام
خلاصة ما توصلت إليه من البحث في هذه المسألة ، وأسأل الله تعالى أن يكتب القبول
لهذا الجهد وأن يجعله خالصا لوجه الكريم وأن ينفع به وأن يتجاوز عما فيه من الخطأ
والنقص والخلل.
المطلب الأول:مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم
اختلف
أهل العلم في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب ، وإليك بيانها:
المذهب الأول : يكره
تكرار العمرة في المسير الواحد ، ولكن إذا أحرم بها انعقدت ولزمت.
وهو لازم
مشهور مذهب المالكية ، وحجتهم أنه أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ،
والتأسي به مطلوب وخلافه مكروه.
[نظر
مواهب الجليل ج2 / ص 464 -465]. [وانظر الذخيرة للقرافي ج3/ص/203]
المذهب
الثاني: لا يجوز تكرار العمرة في المسير الواحد ، بل هو بدعة في الدين.
وممن ذهب إلى هذا ابن تيمية وابن القيم وتابعهما جمع من أهل العلم منهم ابن عثيمين والألباني وغيرهما.
وممن ذهب إلى هذا ابن تيمية وابن القيم وتابعهما جمع من أهل العلم منهم ابن عثيمين والألباني وغيرهما.
وحجتهم
أنه أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به ، ولم يثبت عن السلف ، وما
كان كذلك فهو بدعة ، وحملوا عمرة التنعيم التي أذن بها صلى الله عليه وسلم لعائشة
بعد الحج على أنه امر خاص بها وبمن كانت حائضا مثلها ، ولذلك سمى الشيخ الألباني
عمرة التنعيم بعمرة الحائض.
واحتجوا
أيضا بأن تكرار العمرة يشغله عن الطواف بالبيت وهو أفضل من العمرة.
[انظر ابن تيمية مجموع الفتاوى ج26 /ص 264]. [وانظر ابن القيم زاد
المعاد ج 2 /ص 89 ، 90 ]. [ وانظر ابن عثيمين لقاء الباب المفتوح / ج 28/ ص 121]. [وانظر الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من
فقهها وفوائدها ج 6/ص261]. [وانظر كذلك المغني لابن قدامة المقدسي الحنبلي ج
3 /ص 174].
المذهب الثالث : يستحب
تكرار العمرة من غير تقييد ، ولو أن يكررها في اليوم الواحد عدة مرات ، وللمكرر للعمرة
أن يحرم من التنعيم حيث أحرمت عائشة بعمرتها ، وهو المسمى بمسجد عائشة.
واحتجوا
بما يلي :
- أن النبي
صلى الله عليه وسلم حث على العمرة في أحاديث كثيرة جاءت مطلقة فلا تقيد إلا بدليل
، والندب يراد به الاستكثار من المندوب إليه ولا يمنع منه إلا ما استثناه الشارع.
- ثبوت
النص الصريح في إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وتوجيهه لها أن تعتمر من
التنعيم يدل دلالة صريحة على جواز تكرار العمرة في سفرة واحدة.
- الاصل عدم الكراهة ، والكراهة
حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل.
- القياس
على نوافل الصلاة والصيام فلا يمنع أحد من الاستكثار منها إلا بدليل ، كأوقات
النهي عن النوافل وايام النهي عن الصيام.
وممن ذهب
إلى هذا الحافظ ابن عبد البر ووصفه بمذهب الجمهور [انظر الاستذكار
ج11/ص 251]. والنووي ووصفه بأنه مما لا خلاف فيه بين فقهاء الشافعية
.[انظر المجموع ج7 / ص /123]. ونسبه ابن قدامة
إلى بعض الحنابلة ،[انظر المغني ج5 / ص /17
المطلب الثاني : المناقشة والترجيح
بعد عرض
مذاهب أهل العلم وأدلتهم باختصار يتبين لنا - والله أعلم - أن مذهب القائلين بالاستحباب أقرب للرجحان ،
لماذا ؟ لأن أدلة المجيزين قوية جدا وهي صريحة في دلاتها ، بخلاف أدلة المانعين
فهي لا يستقيم الاحتجاج بها للأسباب الآتية:
- 1 أنه لا
يوجد نص يمنع من تكرار العمرة في السفرة الواحدة أو الإحرام من التنعيم(مسجد
عائشة). قال اللخمي المالكي :
"لا أرى أن يُمنع أحد من أن يتقرب إلى الله بشيء
من الطاعات، ولا من الازدياد من الخير في موضع لم يأت بالمنع منه نص" (انظر: مواهب الجليل ج2 ص].
- 2أن ما احتج به المانعون بأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يفعله مع القدرة عليه، لا يصلح دليلاً لعدم المشروعية وعدم الجواز ، لماذا
؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ على الإكثار من العمرة وهي سنة قولية ، ومعلوم
أن السنة القولية أقوى من السنة الفعلية.
وأيضا
أنه صلى الله عليه وسلم ترك بعض العبادات ومع ذلك فهي مجمع على استحبابها ، من ذلك
استحباب العمرة في رمضان مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها أبدا.
وقد ثبت
أنه صلى الله عليه وسلم كان يستحب الفعل ولا يفعله رفعا للمشقة عن أمته.
وقد نظم العلامة
السيد عبد الله بن الصديق الغماري :
الترك
ليس بحجة في شرعنا *** لا يقتضي منعا ولا إيجــــــــــــــابا
فمن
ابتغى حظـرًا بتـرك نبينا *** ورآه حكمًا صادقًا وصــــــــــــوابا
قد ضل عن
نهج الأدلـة كلــــــها *** بل أخطأ الحكم الصحيح وخابا
- 3قولهم بأنه لم يثبت عن السلف لا يسلم به ، لماذا
؟ لأنه قد ثبت عن السلف ، من ذلك :
-ما روي
عن أنس بن مالك أنه كان بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر (انظر مسند الشافعي 778، وانظر البيهقي 8730].ومعنى حمم رأسه أي إذا اسود رأسه بعد حلقه.
- وأيضا ما روي عن جابر أنه سئل عن العمرة بعد الحج
أيام التشريق فلم ير بها بأساً [انظر
مصنف ابن أبي شيبة رقم 13017].
- وأيضا ما روي عن سعيد بن جبير انه سئل عن العمرة
بعد الحج بستة أيام فقال: "اعتمر إن شئت" (انظر
أبن أبي شيبة13020].
- وأيضا
ما روي عن طاووس أنه قال: "إذا مضت أيام التشريق فاعتمر متى شئت إلى
قابل" (ابن أبي شيبة 12724].
- وأيضا ما
روي عن عكرمة أنه قال: "اعتمر ما أمكنك" (ابن أبي
شيبة 12726].
- 4 قولهم
بأن الطواف أفضل من العمرة لا يؤخذ على إطلاقه هكذا ، لأنه لا يوجد نص صريح في
تفضيل الطواف على العمرة ، وإنما هي مسألة اجتهادية ؛ وقد اختلف العلماء في أيهما
أفضل ؟ الطواف أم العمرة ؟ (نظر ذلك
في الأشباه والنظائر للسيوطي ص 412 ـ 413)، (وانظر ايضا عمدة القارئ شرح صحيح البخاري للعيني
15 / 37 ).
ولنفرض
أن الطواف أفضل ، فلا يصح الاحتجاج بالأفضل على عدم جواز المفضول ، كما في أفضلية
الضأن على المعز في الأضاحي ..ثم أن
العمرة تشتمل على الطواف وزيادة من سعي وحلق ...الخ بينما لا يشتمل الطواف على شيئ من ذلك.
-5 قولهم
بأن عمرة عائشة قضية خاصة بها أو بمن كانت حائضا مثلها،هذا القول لا يصح ؛ لأن المعلوم بين اهل الأصول (
الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه) ، والخصوصية لا تثبت
بالاحتمال بل لا بد فيها من دليل شرعي ، وبما أنه لا دليل فيحمل الإذن لعائشة
بالعمرة على التشريع العام ، كما قال اسيد بن حضير لعائشة :" جزاك الله خيراً
، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيراً". ( أخرجه البخاري في كتاب التيمم باب إذا لم
يجد ماء ولا تراباً رقم 336 ). ).
النتيجة المستخلصة
بناء على
هذه الدلائل وعلى هذا التوجيه نقول بأنه يجوز تكرار العمرة في السفرة الواحدة وفي
المسير الواحد ، بل هو مستحب يثاب فاعله ولا لوم على من تركه ، سواء كان ذلك عن
نفسك أو عن قريبك المتوفى ، أو الحي العاجز عجزا مزمنا ، ولكن ينبغي أن تعتمر عن
نفسك أولا ، ثم عن قريبك ، ولك أن تحرم من التنعيم (مسجد عائشة) وهو المكان الذي
أحرمت فيه بعمرتها رضي الله عنها.ولا تنسانا وأنت في تلك البقاع المقدسة من صالح
دعائك .
والله
وحده أعلى و أعلم بالصواب.
وأرجو
ممن وجد خطأ في هذا المقال أن ينبهني إليه ، ومن كان له رأيا مخالفا لما توصلت
إليه فليبده للناس مصحوبا بدليله فقد يكون الصواب فيه.
والسلام
عليكم ورحمة الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق