الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
وزارة الشؤون الدينية والأوقاف
مديرة الشؤون الدينية والأوقاف
لــولاية ميلة
محـــــــــاضــــــرة بعـــــنوان:
منهـج الفــتـوى
عند الشيخ أحمد إدريس عبده 1435هـ
دراسة
تطبيقية تأصيلية
إعداد: العيد بن زطة
1436هــ / 2015 م
مقدمة
الحمد لله حق
حمده ، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو
القصد تمام قصده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصبحه أجمعين .
الجمع الكريم
: أحييكم جميعا بتحية الإسلام ، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، و بعــد
/
فإن للفقهاء في الإسلام منزلة رفيعة ؛ فهم و رثة الأنبياء ، وحفظة الشريعة المعظمة ، ينفون عنها تحريف
الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ولا يتأتى فهمها إلا عن طريقهم ؛ لذلك كانت
حاجة الناس إليهم أعظم من
حاجتهم إلى الطعام والشراب
، وكانوا في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، وكانوا
بولاية الله أحق من غيرهم.
وإن الأمة التي تبجل علماءها وتحتفل بذكراهم
و تهتم بعلومهم ومآثرهم لهي أمة جديرة بالتوقير والاحترام ، حرية بأن تحظى
برعاية الله وحفظه .
وإن فضيلة أستاذنا الشيخ أحمد إدريس عبده– رحمه الله تعالى - كان
واحدا من هؤلاء الفقهاء ، الذين خلفوا تراثاً فقهيا معتبرا يستحق الدراسة والتنقيح
والتحقيق ، و في هذه المحاضرة الموجزة دراسة تطبيقية تأصيلية لمنهجه رحمه الله تعالى في الفتوى ، من خلال
بعض فتاويه المسموعة والمكتوبة.
شرح ألفاظ المحاضرة
و قبل الشروع في
المطلوب لا بد من شرح وجيز لمفردات المحاضرة ، وهي كالآتي:
أولا: الفتوى.
هي في
اللغة : اسم مصدر بمعنى الإفتاء ، والجمع فتاوى و فتاوي يقال : أفتيته فتوى وفتيا:
إذا أجبته عن مسألته[1]. وهي في الاصطلاح
الشرعي : "...الإخبار عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة"[2]. وعبر عنها الشيخ
أحمد إدريس بقوله:"...الجواب عما يشكل من الأحكام ،
أو يقال : هي بيان حكم الشرع في قضية من القضايا جوابا عن سؤال معينا كان أو مبهما
، من فرد أو جماعة ، وبيان أحكام الشرع قد يكون غير سؤال أو استفتاء ، وقد يكون
بعد سؤال واستفتاء ، وكلا الطريقتين جاء في القرآن"[3].
ثانيا:
المنهج:
وفي الاصطلاح : هو
الطريقة أو الأسلوب الذي يقوم على قواعد نظرية وإجراءات عملية.
ونعني بالقواعد
النظرية: تلك الأصول التي تستند إلى النقل
والعقل . وبالإجراءات التطبيقية : الخطوات الميدانية [6] .
ومن
خلال هذا التعريف يتبين لنا بأن المراد بمنهج الفتوى :
"الطريق التي يسلكها المفتي في إصدار
فتاواه ، والأصول التي يعتمد عليها ، والجوانب التي يراعيها في ذلك".
ومنهجيتي
في الكشف عن منهج الشيخ – رحمه الله - في الفتوى هي كالآتي :
"تتبع مواقع
الإفتاء في القضايا المعروضة عليه . و
مقابلتها بآراء لفقهاء ؛ لتحديد مواطن
الاتفاق والاختلاف . وعرضها على قانون
الشرع ؛ للكشف عن الأصول التي كان يعتمد عليها رحمه الله في إصدار فتاواه والجوانب
التي كان يراعيها في ذلك".
وهي مهمة ثقيلة صعبة
المورد على نظرائي ، لا أدعي بلوغ الكمال
فيها وما كنت أطمح إليه ، بل أقطع بعدم
الكشف عن جميع معالم منهجه في الإفتاء ، و ما أمكنني الكشف عنه أقطع بعدم
استيفائه حقه كاملا من الدراسة والتوجيه
، إلا أنه كما قيل : ما لا يدرك كله لا يترك جله أو قله.
ويكمن تلخيص معالم هذا المنهج في المسالك الإجمالية الآتية:
1- التخريج على أقوال الفقهاء في أمهات المسائل وعيونها
عدم الضمان في حوادث المرور دون تسبب من السائق بتعد أو تفريط
نموذجا.
2- مراعـــــاة
التيسير و رفـع الحـــــــرج.
إباحة القرض الربوية في حالة الاضطرار أو المشقة نموذجا.
3-4- مراعاة الأعراف السـائدة وفقه الواقع.
تصور المشقة وتكييفها حسب عادات الناس وواقع حياتهم نموذجا.
5- درأ
المفاسد عن المستفتين من خلال التماس المخارج لهم في أقوال الفقهاء وفق أسلوب الشريعة
وتصرفاتها.
- عدم وقوع الطلاق البدعي نمـــوذجا.
- إلحاق ولد الزنا بأبيه إذا استلحقه نموذجا.
6- النظر إلى مآلات الأفعـــال.
ترجيح القول بلزوم بيع المكره على سبب البيع نموذجا.
وبعد عرض الهيكل العام للمحاضرة ،
نشرع الآن في تفصيله بعون توفيقه:
المسلك الأول : التخريج على أقوال
الفقهاء في أمهات المسائل وعيونها
تعريف التَّخْرِيجُ
هو عند
الْفُقَهَاءِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الاِسْتِنْبَاطِ ، وَمَعْنَاهُ :
"اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى نَصِّ الإِْمَامِ فِي صُورَةٍ
مُشَابِهَةٍ ، و قد يكون التَّفْرِيعِ عَلَى
أُصُول إِمَامِ الْمَذْهَبِ كَالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ ، مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنَ الإِْمَامِ"[7]. كالتَّفْرِيعُ عَلَى قَاعِدَتي "عَدَمِ
التَّكْلِيفِ بِمَا لاَ يُطَاقُ ": و
"سد الذرائع" ونحوهما.
فحينما
تعرض المسألة على الفقيه و لا يجد لها
حكما منصوصا عليه ؛ فإنه يقيسها على مسألة
أخرى منصوص على حكمها ؛ ليستخرج لها حكما مشابها لحكم المسألة المنصوص عليها.
قال الشيخ رحمه الله تعالى : " ....لا يجوز أن يفتي الناس من لم يتمرس أقوال الفقهاء في أمهات
المسائل التي هي كالقواعد ويتفرع عليها غيرها ؛
ليعرف مدارك الأحكام وطرق الاستنباط ، وليعرف أيضا مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلافه ...."[8].
ومن أمثلة ذلك ما أفتى
به الشيخ رحمه الله تعالى ، بأن السائق إذا لم يظهر منه
تسبب في حادث المرور بتعد أو تفريط فلا يضمن ، و قال رحمه الله - فيما معناه – "أن
قانون المرور يأخذ بين الاعتبار في الشريعة الإسلامية ، فإذا كان السائق ملتزما
بهذا القانون من كل النواحي ، أي من حيث التزامه بحد السرعة ، والحيز المحدد له في
الطريق ، وكانت وثائقه منتظمة ، وسيارته منضبطة.... فإن اعتدي عليه وهو كذلك ، فليحال
الهرب بالقدر الذي لا يسبب له الهلاك ، فإن فعل واصطدم به الغير وهلك ، فلا ضمان عليه أي لا تلزمه كفارة و لا دية لأنه لا اختيار له".
وهذه المسألة غير
منصوص عليها عند العلماء المتقدمين ؛ لأن
وسائل النقل الحديثة لم تكن موجودة في عصرهم، والشيخ إدريس – رحمه الله – لم ذكر
لنا تعليلا في هذه المسألة ؛ و بعرضها على
قانون الشرع ومقابلتها بأقوال الفقهاء نجد
أنه قد خرجها على أصلين:
أحدهما : نصوص الأئمة في تصام
السفينتين وجموح الفرس وغلبة الدابة لراكبها.
جاء في
المدونة الكبرى للإمام مالك :" قلت: أرأيت لو أن
سفينة صدمت سفينة أخرى فكسرتها فغرق أهلها ؟ قال: قال مالك: إن كان ذلك من الريح
غلبتهم أو من شيء لا يستطيعون حبسها منه فلا شيء عليهم ، وإن كانوا لو شاءوا أن
يصرفوها صرفوها فهم ضامنون"[9]. وقال ابن الحاجب: " فإن اصطدم سفينتان فلا ضمان بشرط العجز عن الصرف".و
قال ابن عرفـــــــة : "إذا جمح الفرس ولم يقدر
راكبه على صرفه أنه لا يضمن". وكلا القولين في التاج والإكليل لمختصر
خليل[10].
و ذكر المرداوي
الحنبلي - في الإنصاف 10 / 36 - والكاساني الحنفي - في بدائع الصنائع: 7 / 273)
- والنووي الشافعي - في روضة الطالبين 9 /
331- :" إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن".
فالمسألة
التي ذكرها الشيخ مخرجة على النصوص ، فما يحصل بالسيارة بعد خروجها عن ضبط السائق
بسبب خلل حدث بجهاز من أجهزتها ، مطابق لما ذكر من نصوص الفقهاء ، وكذلك لو قفز قافز أمام السيارة فهلك ، راجلا كان و أو راكبا ..... فلا تصح نسبة الإهلاك إلى السائق – في مثل هذا الحال
- ما لم يكن متعديا أ مفرطا .
ولا يصح أن يقال : أن السائق مباشر للإهلاك فيضمن تطبيقا
لقاعدة:" المباشر ضامن وإن لم يكن معديا
".
لأن محل القاعدة أن
يحصل التلف بفعل المباشر من غير أن تتخلل بين فعله وبين التلف واسطة أخرى مؤثرة كالقوة
القاهرة لا يستطيع دفعها ويتعذر عليه الاحتراز منها ، أو كان الحادث بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في
إحداث النتيجة ، أو كان بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.
فإذا صحت نسبة التلف
إلى فعل المباشر دون أن تتخلل بينه وبين
التلف واسطة مؤثرة فيضمن بلا نزاع ، أما
إذا تخللت واسطة بين فعل المباشر وبين التلف لم تتحقق المباشرة ، و من ثم فلا يضمن لكونه مسببا لا مباشرا ، وبما أنه مسبب - لأنه سير
السيارة في مبدأ الأمر - فيشترط لتضمينه
التعدي أو التفريط[11].
تطبيقا لقاعدة " المسبب ضامن إن كان متعديا".
والثاني:
إناطة أحكام التكليف بالاختيار.
فهم ذلك من قوله " لا تلزمه كفارة و لا دية لأنه لا اختيار له". ومعلوم أن الكفارة من الأحكام التكليفية ، فلا تُعلق بمن
لا اختيار له ، وهذا السائق قد أصبح الأمر خارجا عن اختياره ، فكان في حكم الملجأ
، والملجأ ليس مكلفا اتفاقا ، و من القواعد المقررة لدى أرباب الأصول : ( لا تكليف إلا بمقدور).
وبالرجوع إلى مفتاح
دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة نجد ابن القيم الجوزية يبني على هذا
الأصل بعض المسائل مما لا اختيار للمكلف
فيها ، منها : "
من توسط بين فئة مثبتة بالجراح وليس له الانتقال إلا على أحدهم ، فإن أقام على من
فوقه قتله ، وإن انتقل إلى غيره قتله .......". قال ابن القيم ـ مجيبا
عن ذلك ـ : "أن هذا ليس مكلفا في هذه الحال، بل هو
في حكم الملجأ، والملجأ ليس مكلفا اتفاقا .. ومثل هذا لا يوصف فعله بإباحة ولا
تحريم ، ولا حكم من أحكام التكليف ؛ لأن أحكام التكليف منوطة بالاختيار ، فلا
تُعلق بمن لا اختيار له"[12]. ونظائر هذا المثال في حوادث المرور لا حصر
لها في عصرنا.
فما ذكره ابن
القيم والشيخ إدريس وما نقلناه من نصوص العلماء كله يدور في فلك واحد وهو " إناطة أحكام
التكليف بالاختيار". و يمكننا أن نستخلص من فتوى الشيخ رحمه الله و
الأصل الذي انبتت عليه ما يأتي:
2)
أما إذا تعدَّى السائق أو فرَّط فعليه الكفارة والدية على
عاقلته[14].
المسلك الثاني : مراعاة التيسير و
رفـع الحـــــرج
و معه المسلكان الثالث والرابع
و هما : "مراعاة العرف وفقه الواقع"
فلقد تضافرت
الأدلة على أن الشريعة الإسلامية مبناها على مبدأ اليسر ورفع الحرج ، فمتى نشأ عن
التكليف حرج أو مشقة غير معتادة ، فإن الشريعة تخففها بما يقع تحت قدرة المكلف ،
وفق ضوابط محددة ، ومن هذا المنطلق قعد العلماء
قاعدة : " الضرورات
تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها" وقاعدة " المشقة تجلب التيسير"وقاعدة "الأمر إذا ضاق
اتسع ".....
وهنا نجد الشيخ
رحمه الله يفتي بجواز القرض الربوي في حالة الاضطرار أو المشقة ، فقد استفتاه أحد
المعلمين من بلدية المشيرة سنة 2004م عن
حكم القرض الربوي لبناء أو شراء مسكن ،
فقال رحمه – فيما معناه - :" إذا كان ذلك للتوسع
في المشاريع والسكنات ونحوها .. فهذا لا يجوز ، وإن كان الشخص لا يملك سكنا ، أو
يملك سكنا غير لائق كسكن قصديري وسط حي حضري راق
؛ فتجوز له هذه الاستدانة ، بقدر ما يحتاج إليه في ذلك ، على ألا يلجأ إلى ذلك إلا بعد استنفاد كل الوسائل المشروعة".
و هذه الفتوى من
الخطورة بمكان ، و بعرضها على قانون الشرع نجد أنها لا يصح أن تبنى على أصل " الضرورات تبيح المحظورات بشرط
عدم نقصانها عنها" ؛ لأن الضرورة عند
المحققين من أهل العلم واقعة في أشد
المراتب احتياجا، بحيث يخشى معها فوات أحد الكليات الخمس وتوابعها ، و لا يتصور
ذلك في المسألة المطروحة.
و بالرجوع إلى
كتاب فقه المعاملات للشيخ إدريس رحمه الله تعالى نجده ينبه هو الآخر إلى هذه
القضية فيقول :"...والمسلم يعرف إن كان مضطرا إلى
أكل الربا فيحل له تناوله ، فيكون مثله
مثل أكل الميتة ولحم الخنزير ونحوهما ، وإن
لم يكن مضطرا هكذا لم يحل له "[15].
وإذن : فمبنى هذه
الفتوى – والله أعلم - على أصل التيسير
ورفع الحرج ، ومنه قاعدة " الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة ". فإذا كانت الضرورة هي الحالة الملجئة إلى
مالا بد منه ، فإن الحاجة هي الحالة المفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق
المؤدي غالبا إلى الحرج والمشقة المترتبة على فوات المطلوب .
لكن هذا الأصل غير كاف وحده
لإباحة محظور في حجم الربا ؟
بالنظر إلى غلبة المفسدة في هذا الأخير ، وتعلق المشقة بالحاجيات دون
الضروريات ، وحسب معرفتي
بالشيخ أن له سندا آخر اعتمد عليه
؛ لتقوية جانب درأ المشقة وجلب التيسير ،
وهو عموم الحرام في القروض ، فللعلماء موقف معلوم من هذه المسألة، قال سلطان
العلماء في قواعد الأحكام في مصالح الأنام "... إذا عم الحرام بحيث
لا يوجد حلال فلا يجب على الناس الصبر إلى تحقق الضرورة ، لما يؤدي إليه من الضرر
العام"[16]. و جاء في النوازل
الكبرى للمهدي الوزاني أن
الفقيه بن عيشون خاف على زرعه فاستأجر عليه إجارة فاسدة حين لم يجد الجائزة، ثم
قال: "ومثله لو عم الحرام في الأسواق ولا مندوحة عن
ذلك .."[17].
وقال ابن القيم : "... تحريم ربا
الفضل إنما كان سدا للذريعة .... وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة
الراجحة......... وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من
وزنها لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدا للذريعة ، فهذا محض
القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل والحيل باطلة "[18]. فإباحة ابن القيم لربا الفضل إذا دعت إليه
الحاجة أساسها أن مصلحة الناس تفوت بدون ربا الفضل.
و من خلال ما تقدم تكونت لدينا
ثلاثة جوانب هي:
- درء المشقة وجلب التيسير.
- عموم الحرام في القروض.
- فوات مصلحة الناس دون ذلك.
فلربما تكون من هذه الجوانب الثلاثة في ذهن الشيخ رحمه الله ما يشبه
المعضدات أو الشواهد التي يتقوى بها الدليل الضعيف ؛ فيرتقي إلى مقام الصلاحية
للاحتجاج به في إثبات الأحكام ، فكان ذلك كافيا في نظر الشيخ لإصدار هذه الفتوى ،
وهذه – و لاشك - عبقرية فذة في صناعة الإفتاء لا تتأتى إلا لمن خبر أسرار التشريع
وأدرك مراميه وتمرس أقوال الفقهاء في التعامل مع أسلوب الشريعة وتصرفاتها.
أما جزئية المسألة
التي ذكرها الشيخ فيمن :" يملك سكنا غير لائق كسكن
قصديري وسط حي حضري راق"
فمبناها - بالإضافة إلى ما ذكر - على مراعاة الأعراف السائدة وعلى فقه
الواقع أيضا ، فهو قد راعى هذا الجانب لا لكونه مبررا لإباحة المحظور ؛ إذ لا عبرة
بالعرف في مورد النص والإجماع والقياس
المعتبر ، وإنما نظر إلى ذلك لتصور المشقة
وتكييفها ، و
المشقة المقصودة إنما هي المشقة
المعتبرة الخارجة عن الاعتياد من غير قصد
و لا هوى ، و هي - على الرغم من اعتبارها
– ليس لها ضابط محدود شرعا و لا لغة [19]، لأنها من الأوصاف المضطربة ، التي تتغير من
زمن إلى زمن و من شخص إلى آخر ، و من القواعد المشتهرة عند الفقهاء" أنُ مَا لَا ضابط لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ
يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ"[20].
و قال رشيد رضا
:"فَالرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَشُقُّ عَلَى
النَّاسِ ، وَمَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهُوَ
لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِمُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَتَعَرُّفِ شُئُونِهِمْ
وَأَحْوَالِهِمْ ، وَقَدْ كَثُرَتِ الدَّوَاهِي فِي آرَاءِ الْفُقَهَاءِ
الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ أَمْرَ الْعَامَّةِ ، وَرَحِمَ اللهُ
مَنْ قَالَ : " الْفَقِيهُ هُوَ الْمُقْبِلُ عَلَى شَأْنِهِ الْعَارِفُ
بِأَهْلِ زَمَانِهِ "[21].
فالشيخ رحمه الله
قد راعى الجانب المعنوي إضافة إلى الجانب المادي في المشقة ، رابطا فتواه بواقع
الناس ومشكلات عيشهم ، و لقد قال رحمه
الله – في هذا الصدد - : "والمفتي البصير هو الذي
يكون واعيا للواقع حتى يربط فتواه بحياة الناس ، فهو لا يكتب نظريات و لا يلقي
فتواه في فراغ .... وبدون معرفة الناس ومعايشتهم في واقع حياتهم ومشكلات عيشهم يقع
المفتي في متاهات أو يهوم في خيالات ، ويظل هو في واد والناس في واد ، فهو لا يعرف
إلا ما يجب أن يكون دون ما هو كائن ، مع أن الواجب شيء و الواقع شيء آخر
"[22].
المسلك الخامس :
درأ المفاسد عن المستفتين من خلال التماس
المخارج لهم في أقوال الفقهاء وفق أسلوب الشريعة وتصرفاتها.
قال رحمه الله
تعالى : " ......... يجب على المفتي أن يعايش
الفقهاء في كتبهم وأقوالهم ، ويطلع على اختلافهم وتعدد مداركهم ، وقد قيل : "من لم يعرف اختلاف العلماء لم يشم رائحة الفقه "[23].
ولهذا كان الشيخ
رحمه الله إذا عرضت عليه مسألة وكان الإفتاء فيها بالمذهب المالكي أو بمذهب الجمهور يفضي إلى مفسدة التمس لها المخارج في أقوال العلماء في المذاهب الأربعة وفي غيرها ، وربما عدل عن الدليل الراجح إلى
الدليل المرجوح في تلك المسألة ، لا بالهوى والتشهي ، إنما وفق ما عهده وتحققه من أسلوب الشريعة ، نذكر من ذلك ما يلي
:
1- أتاه سائل من مدينة فرجيوة وأخبره بأنه طلق
زوجته ثلاث تطليقات في مجالس متفرقة ، وأنه قد ندم وأحزنه تفرق شمل أسرته فهو في
حيرة من أمره ، وقد سأل العديد من
الأئمة فأخبروه بأن زوجته قد بانت منه
بينونة كبرى .... و هذا الذي أفتاه به الأئمة هو مذهب جمهور أهل العلم سلفا وخلفا
بصرف النظر عن كون الطلاق واقعا في حالة طهر أم في حالة حيض .
لكن الشيخ سأله إن كانت تلك التطليقات واقعة في حالة طهر
أم في حالة حيض ؟ فأخبره – بعد الاتصال بزوجته هاتفيا - بأن إحداهن كانت في حالة
حيض ، فأفتاه الشيخ بجواز مراجعة زوجته على رأي ابن
تيمية وتلميذه
ابن القيم والصنعاني و الشوكاني وغيرهم....الذين
يقولون بعدم وقوع الطلاق البدعي.
وقد اختلفت أنظار الباحثين في المسألة فمنهم
من رجح مذهب الجمهور ومنهم من رجح الرأي
الأخير، فأدلة لفريقين تكاد أن تكون متكافئة فيها ؛ فلا ضير – إذن – أن يلجأ
المفتي إلى هذا الرأي ؛ ليدرأ لمفسدة عن المستفتي في المسألة بعد وقوعها.
وأنبه
إلى أن محل الخلاف في المسألة إنما هو طلاق الحائض المدخول بها ، فلا يدخل في هذه
المسألة التي لم يدخل بها زوجها ولا الحامل الحائض - على رأي من يرى أن الحامل
تحيض.
2- سئل عن رجل تزوج امرأة بغير عقد في فرنسا
وأنجبت بنتا وصار عمرها خمس سنوات ، فأفتاه الشيخ بجواز العقد على هذه المرأة ،
وأن البنت تلحق به ، إذا ثبت أنها منه لا من غيره ، وقال هذا على مذهب إسحاق ابن
راهويه .
وللأمانة العلمية
أن هذه الفتوى لم أسمعها منه ، وإنما رواها لي من سمعها منه والعهدة على الراوي
وهو الشيخ علي بن جبار.
ولما بحثت في المسألة وجدت أن
نسبة الولد إلى أبيه من الزنا و لحوقه به إذا استلحقه ، لم تنسب إلى إسحاق بن راهويه
فحسب ، بل هي منسوبة أيضا إلى عروة ابن الزير ، وسليمان بن يسار[24]، ونقلها
ابن قدامة
عن أبي حنيفة ، قال : " وروى علي بن عاصم ، عن أبي حنيفة ،
أنه قال : لا أرى بأسا إذا زنى الرجل بالمرأة فحملت منه ، أن يتزوجها مع حملها ،
ويستر عليها ، والولد ولد له " [25].
و لم أجد - فيما
تيسر لي النظر فيه من مصادر – سندا يستند إليه هذا الرأي ، إلا ما روي عن
عمر أنه :" ...أَلْحَقَ
أَوْلَادًا وُلِدُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ "[26]. وهو ليس بحجة ؛ لأن ذلك إنما كان لأهل الجاهلية ، الذين كان أغلب حالهم كذلك ، قال ابن عبد البر- معلقا على الأثر المذكور
- :
"....لان أكثر أهل الجاهلية كانوا كذلك ، واما اليوم في الإسلام بعد
أن احكم الله شريعته وأكمل دينه فلا يلحق ولد من زنا بمدعيه أبدا عند احد من
العلماء"[27]. وقوله:" عند احد
من العلماء ". فيه نظر ؟ فقد رأينا من العلماء من قال
بإلحاقه...
غير أن مما لا نزاع فيه أن هذا الرأي لا يجوز الإفتاء به قبل الابتلاء أبدا ،
والحديث صريح في أن " الولد للفراش " [28] ؛ وإنما تكون المرأة
فراشا بالعقد أو بملك اليمين ، ومن القواعد المقررة: "جعل الحكم تابعا للدليل عمل الراسخين وعكسه عمل الزائغين ".
إلا
أن "
القضاء بالراجح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية".
كما ذكر ابن العربي المالكي في المعيار[29] وغيره، ولذلك إذا
وقعت واقعة وأفضى الإفتاء فيها بالدليل الراجح إلى
مفسدة غالبة ، جاز – و
قد يجب- العدول – حينئذ- عن الراجح إلى المرجوح
في تلك المسألة ؛ لأن المرجوح – وإن كان ضعيفا - يتقوى
جانبه في الواقعة بعد وقوعها ، بأصل درأ المفاسد وجلب المصالح ، وأصل "مراعاة الخلاف" يرجع إلى هذا
المعنى ، وكذلك "أصل الاستحسان" ... والشريعة كلها قائمة على اعتبار المصالح ، ومن
قواعدها الكلية : " ... إذا كانت المفسدة هي
الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد ، فرفعها هو المقصود شرعا ، ولأجله
وقع النهي .." [30].
ولما كان المفتي ناظرا في مصالح الخلق ، لزم أن يكون نظره
ملائما لما عهده وتحققه من أسلوب الشريعة في جلبها للمصالح ودرأها للمفاسد .
وهو ما كان ينتهجه
الشيخ في إصدار فتواه...و بهذا ندرأ عن
شيخينا رحمه الله ما قد يطرق للأذهان من شبهة تتبعه للرخص بإطلاق ؛ بل كان
منهجه في الإفتاء قائما على الوسط المعهود من أسلوب الشريعة ، ومن القواعد التي قررها الشاطبي في موافقاته :
" ذروة
الإفتاء حمل الناس على المعهود الوسط" [31].
المسلك السادس : النظر إلى مآلات
الأفعـــال
من القواعد المقاصدية
التي قررها الشاطبي في موافقاته : "النظر في
مآلات الفعال معتبر مقصود شرعا ، كانت الأعمال موافقة أو مخالفة"[32].
ودلائل هذا الأصل لا حصر لها ، و عنه انبثقت قاعدة الاستحسان ، و
قاعدة مراعاة الخلاف ، و قاعدة سد الذرائع ،
و قاعدة المنع من الحيل..... قال الشيخ إدريس رحمه الله تعالى "
... ينبغي على المفتي أن يكن عارفا بالأصول الكلية التي
انبنى عليها الشرع الإسلامي ....وذلك كالنظر في مآلات الأفعال عند الاستنباط ، لأن
المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين ... إلا بعد نظره إلى ما
يؤول إليه ذلك الفعل ، فقد يكون مشروعا لمصحة فيه تستجلب أو مفسدة تدرأ ، ولكن له
مآل على خلاف ما قصد فيه....."[33].
وبناء على هذا الأصل الصعب مورده رجح الشيخ رحمه الله لزوم بيع المكره على
سبب البيع ، وذلك كأن يكرهه ظالم على أن يعطيه مالا وإلا سجنه ، و لم يكن للمكره
مال يدرأ به المضرة عن نفسه ، فاضطر إلى بيع داره أو سيارته لأجل الحصول على
المال ، فهذا البيع غير لازم عند المالكية
، وهو المشهور [34]، وحجتهم عموم النصوص الدالة على اشتراط الرضى لصحة العقود ومنها
البيع والشراء ، كقوله
تعالى : " إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ
". و
كحديث أبي سعيد: "إنما البيع عن تراض[35]"
.
ولكن ذهب بعض المالكية منهم محمد بن
محمد ابن عرفة إلى لزومه
،
وهو ما رجحه الشيخ إدريس رحمه - وما يهمنا
هو الأساس الذي استند إليه في الترجيح -
حيث علل ذلك بقوله: " ... فإذا قلنا بأن البيع غير لازم لم يقدم أحد على الشراء منه
وفي ذلك ضرر به ، فالقول بلزوم البيع هو الأرجح بالنظر لمصلحة البائع "[36]..... فترجيح هذا القول مبناه على النظر إلى ما يؤول
إليه الفعل ، والمفسدة المتوقعة كالمفسدة الواقعة أثرا ونتيجة ، ولم نحفظ -للأسف- فتيا مسموعة عن الشيخ مبناها على هذا الأصل على
الرغم من كثرة احتجاجه بقاعدة
سد الذرائع المنبثقة عن اعتبار المآل ، وله فيها بحث مكتوب بخط يده موجود عند أحد
زملائنا ، وبحث آخر منشور في مجلة منبر الإمام مالك الصادرة عن الزاوية الحملاوية العدد 1 سنة 1995م.
معذرة
لسادتي العلماء عن التطفل على مائدة أنا لست من أهلها. ما كان في هذه المحاضرة من صــــــواب فهو ن الله وحـــــــــده
.وما كان فيها من خلل - وهو لا بد كائن – فو مني وأنا أهلــــــه . والحمد لله رب
العلمين.
[3] محاضرة للشيخ بعنوان : الفتوى أهميتها وضوابطها وأسباب الانحراف فيها.
[4] الرازي . مختار الصحاح . مادة
: نهج.
[6] المنطق ومناهج البحث
العلمي ، فضيلة أستاذنا الدكتور بشير بن صالح.
[8] محاضرة للشيخ بعنوان : الفتوى أهميتها
وضوابطها وأسباب الإنحراف فيها.
[9] المدونة
الكبرى للإمام مالك بن أنس بن
مالك ، المحقق : زكريا عميرات الناشر : دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان ج4 ص666
[11] مثال التعدي:"كأن يتجاوز في موضع لا
يسح فيه بذلك ، أو لا يلتزم بحد السرعة وفق ما تحدده إشارات المرور". ومثال
التفريط: " كعدم تعهد سيارته قبل تسييرها ، وأولى منه تسييرها مع علمه
بوجود الخلل فيها..".
[12] ابن قيم الجوزية. مفتاح السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة. دار
الكتب العلمية. بيروت.{د ت ط }. 2/17.
[13]
ويمكن أن يعرف ذلك بتقرير إدارة المرور عن
الحادث.
[14] وفي المسألة تفصيلات كثيرة ليس
المقام مقام بسطها، فينبغي ألا تأخذ هكذا على إطلاقها ، بل من الإحاطة بملابسات الحادث ،
والظروف التي وقع فيها ، ولابد من تحديد نسبة الخطأ اعتمادا على التقرير الصادر عن
إدارة المرور.
[16] قواعد الأحكام في مصالح الأنام : أبو محمد عز الدين
عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان
العلماء (المتوفى : 660هـ) المحقق : محمود بن
التلاميد الشنقيطي الناشر : دار المعارف بيروت –
لبنان ج 2 ص 37.
[17] المهدي الوزاني . النوازل الكبرى . 10/199. وانظر: عبد السلام الرفعي . فقه المقاصد . ص 276- 277
.
[18]إعلام الموقعين عن رب العالمين . المؤلف
: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله. الناشر : دار الجيل - بيروت ،
1973تحقيق : طه عبد الرءوف سعد . ج 2 / 161.
[19] و في الموافقات للشاطبي . 1/ 377 "فليس للمشقة
المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس".
[20] الفروق 2 / 239
[21] تفسير المنار. محمد رشيد بن علي رضا
(المتوفى : 1354هـ) الناشر : الهيئة المصرية
العامة للكتاب سنة النشر : 1990 م6/224
[22] محاضرة للشيخ بعنوان : الفتوى أهميتها وضوابطها وأسباب الإنحراف فيها.
[24] المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل .لا بن قدامة المقدسي . : دار الفكر - بيروت - الطبعة الأولى ، 1405 ج 7
ص 130
[25].
نفسه ج 7 ص 130
[27] ابن عبد البر. الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار . دار الكتب العلمية
.2000م . بيروت. 7/164.
[29] المعيار12/136-137
[30] الشاطبي . الموافقات . 2 / 20 .
[32] نفسه. 2/ 331.
[34] البهجة في شرح التحفة . أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي . دار النشر :
دار الكتب العلمية - لبنان / بيروت - 1418 هـ - 1998م . الطبعة : الأولى. ج 2 /124
.
بارك الله فيكم على وفائكم لشيخنا ادريس رحمه الله
ردحذفبارك الله فيك يا الشيخ العيد هذا موضوع هام لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه النوازل والمستجدات
ردحذف