التدين الصحيح والتدين المغشوش
محامد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد /
مقدمة
أيها الإخوة: من الحقائق التي ساء فيها فهم بعض الناس : "حقيقة
التدين" ، فحسبه بعضهم مجرد أداء للشعائر التعبدية المعهودة ، من صلاة
وصيام وحج...والدليل على هذا الفهم السائد لدى كثير من مسلمي اليوم ، هو ما يلاحظ في الواقع من فصل للتدين عن الأخلاق
الفاضلة :
فتجد أحدهم يصلي ويحج ويصوم ...
وربما ارتدى قميصا أبيض ، و ربما أرخى الشعر على وجهه ، لكنه يطعن في العباد ويسخر
منهم ، ويغتابهم ويسعى بينهم بالنميمة ،
وإذا حدث كذب في أقواله ، وإذا تاجر غش في
تجارته ، وإذا عاد إلى أهله أساء معاملتهم ،
وإذا أؤتمن خان ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عبد الله راءى في عبادته ، وإذا
تصدق منَّ وآذى ، وقلبه مليء بالأحقاد والحسد ، وإذاسمع ريبة فرح بها.......
وهذا الطراز من البشر يوجد بكثرة في هذه الأزمنة ، ولو فهموا حقيقة التدين ، وأدركوا قيمة الأخلاق
ومكانتها من الدين ؛ لما ففلوا ما فعلوه ، ولحرصوا على التحلي بمكارم الأخـــــــلاق
أكثر من حرصهم على التدين المجرد عنها.
لا دين لمن لا خلق له
والحق – أيها الإخوة الكرام – أنه لن يكون التدين صحيحا ما لم يكن محفوفا
بسياج من الخلق القويم ، فهناك تلازم ضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم ، فلا انفصال لأحدهما عن
الآخر ؛ ولأجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم إرساء البناء
الأخلاقي من أولويات دعوته ، فقال:"إنما بعثت
لأتمم صالح الأخلاق
" رواه
أحمد عن أبي هريرة.
وحينما مدحه ربه إنما مدحه بأخلاقه
، فقال تبارك وتعالى : " وإنك لعلى خلق عظيم".
ما مدحه بعلمه مع أنه صلى الله عليه وسلم سيد العارفين ، و لا مدحه بكثرة صلاته مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتورم
قدماه ؛ لأنه لا قيمة للعلم و لا للعبادة بغير خلق كريم ، وقد جاءت النصوص الشرعية متضافرة للدلالة على
تقرير هذه الحقيقة ، نذكر منها:
1-
ما روي عن أنس بن مالك قال: ما خطبنا النبي صلى الله عليه
وسلم إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين
لمن لا عهد له" أحمد .
2-
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم ": الحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر" الأدب المفرد عن ابن عمر.
فالأمانة
، والوفاء بالعهد ، والحياء ، هذه أخلاق فاضلة ، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والدين عمن لا يتصف بها ، فما قيمة
التدين – إذن – بغير التحلي بمكارم الأخلاق ؟
3-
وقال صلى الله عليه وسلم :" إن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم
خلقاً، وإن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً، وإن من أحبّ العباد إلى الله أحسنهم خلقاً،
وإن من أقرب المؤمنين مجلساً مني يوم القيامة أحسنهم خلقاً" رواه الطبراني عن جابر بن سمرة..
4-
عن أبي
الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال": مَا مِنْ
شَيءٍ أَثْقَلُ فِي الميزانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ".حديث
صحيح، أخرجه أبو داود.
حسن الخُلق
أوزن من قيام الليل ،
وأثقل من إنفاق المال ، فهو أثقل في الميزان يوم القيامة من أي شيء.
العلاقة بين أركان الإسلام ومكارم
الأخلاق
أيها الإخوة: وإذا نظرنا إلى العبادات التي
شرعت فى الإسلام ، واعتبرت أركانا له ، نجد إنما شرعت للارتقاء بالمسلم إلى الكمال
الخلق الخلقي ، وأن يظل مستمسكا بكارم الأخلاق ؟ مهما تغيرت أمامه الظروف.. فهي عبارة
عن تمارين لتعويد المسلمين على الحياة الفاضلة
، فهي تشبه التمارين الرياضية ، التى يمارسها
الإنسان ? ملتمسا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة.
والقرآن الكريم
والسنة المطهرة يكشفان عن هذه الحقائق بوضوح:
* فالصلاة الواجبة: - التي تعتبر عماد الدين - عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها ?
فقال: "وأقم
الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر". فحقيقة الصلاة – إذن - أنها وسيلة
لتحقيق مكارم الأخلاق ، فهي تحجز صاحبها عن
اقتراف الرذائل ، وتطهره من سوء الأقوال والفِعال ، وقد جاء فى الحديث القدسي:
"إنما
أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ? ولم يستطل على خلقي ، ولم يبت مصرا على معصيتي
? وقطع النهار في ذكرى ? ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ? ورحم المصاب"[ رواه البزار في مسند ابن عباس
برقم 4823 ، وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة].
فالتواضع للخالق وخلقه ، وعدم الإصرار على
المعاصي ، والإكثار من ذكر الله ، والرحمة بالمستضعفين عموما ، تلك أخلاق فاضلة ،
والصلاة التي لا تثمر هذه الأخلاق فهي رد على صاحبها.
* والزكاة المفروضة: - التي تعتبر ثالث أركان
الإسلام - ? هى الأخرى وسيلة لغرس مشاعر الحنان والرأفة ، وتقوية
علاقات التعارف والألفة بين الأغنياء
والفقراء ، وقد أبان الشارع الحكمة من إيتائها
? فقال: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ". ففي الزكاة – إذن - تطهير للأنفس من رذائل
الشح والبخل ، وتعويد على الجود والعطاء وهما من أنبل الأخلاق.
وإذا خالط الزكاة ما يشينها من
الأخلاق استحالت إلى معصية ، تنتهي بصاحبها إلى البوار ، قال تعالى : " أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ
رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ".
فالمتصدق الذي يتبع صدقته بالمن والأذى مأزور
غير مأجور ، وقد جافي الحديث :"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا
يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف
الكاذب"[صحيح مسلم برقم 106]
وما يقال في الصلاة والزكاة ، يقال كذلك في
الصيام والحج:
*
ففي الصيام
يقول النبي "من لم يدع قول الزور ? والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه
وشرابه".
[رواه البخاري 6057].
*
وفي الحج يقول الله تبارك وتعالى"الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا
رفث ولا فسوق و لا جدال في الحج "
وبعد هذا العرض الموجز لبعض العبادات التي اشتهر بها الإسلام ? وعُرِفت
على أنها أركانه الأصيلة ? نصل إلى نتيجة هامة ، وهي : إن هذه العبادات وإن تباينت فى جوهرها ومظهرها ?
إلا أنها تلتقي عند حقيقة واحدة ، وهي تلك الغاية التي رسمها الرسول صلى الله عليه
وسلم في قوله: "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ".
الإفلاس الديني سببه سوء الخلق
أيها الإخوة : الانفصال بين العبادات والأخلاق ، يعني الانفصال بين الدنيا والآخرة ، ولسنا نقلل من شأن العــبادة، كلا ، فكن حريصا
على عبادتك ، أدها على الوجه الأتم ، ولكن اعتقد اعتقاداً جازماً أن الإساءة إلى الناس وفساد
الأخلاق – بصفة عامة - مما يفسد عبادتك.
مثلا : لو كان عندك لبن أو عسل ، ثم أضفت له شيئا قذرا لألقيت بذلك اللبن أو العسل كله في القمامة ، وكذلك عبادتك إذا أضفت لها الأخلاق السيئة ، وفيما يلي جملة من النصوص الشرعية التي تقرر هذه الحقيقة:
1-
روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ
شَرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، من تركه الناس اتِّقاء شره".
2-
عن أبي شريح رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن،
والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمَن جاره بوائقه" أخرجه البخاري.
فمهما عبدت الله ، ولك جار تتفنن في إيقاع
الأذى به ، فالنبي عليه الصلاة والسلام ينفي عنك الإيمان ثلاث مرات.
وعن أبي هريرة رضي
الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله "إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها
تؤذي جيرانها بلسانها ، قال: هي في النار ". رواه أحمد في مسنده ورجاله ثقات.
فلم تغن عنها عباداتها شيئا مع سوء أخلاقها ، فهي تؤذي
جيرانها بلسانها ، فالإساءة تفسد الأعمال كما تفسد النجاسة اللبن والعسل.
3-
و روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال:" إن
المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا
وأكل مال هذا وسفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي
ما
عليه أُخذ من
خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
جزاكم الله خيرا ونفع بكم وجعله في ميزان حسناتكم خطبة ممتازة.
ردحذفبارك الله فيك
ردحذفجزيت خيراً شيخنا الفاضل
ردحذفاللهم احفظ علماءنا دنيا واخرى
ردحذف