......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الأحد، 31 مارس 2013

البلاء و الابتلاء ؟



بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد /

مقدمة

من الأمور التي تختلط على الناس كثيرا ، ويصعب عليهم التمييز بينها : ( قضية البلاء والابتلاء والفرق ينهما )  و قد رأيت بعض الوعاظ  هداهم الله يفتنون الناس في دينهم ، بإعطائهم مفاهيم خاطئة في هذا الموضوع ، حيث أرجعوا كل ما يصيب المؤمنين من محن وبلايا  إلى الذنوب والمعاصي  فقط ، مشبهين المؤمنين المبتلين بالأقوام الذين أهلكهم الله بذنوبهم ، كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وجنوده........... حتى ظن الخيرون المبتلون أن الله قد سخط عليهم ، فدخلهم الريب والوسواس ، وظنوا أن أعمالهم الصالحة مردودة عليهم ، وأن الله تعالى غاضب عليهم؛  لذلك ابتلاهم بالمرض أو الفقر  أو الهم .......... و هو ما دعاني إلى طرح هذا الموضوع وتبسيطه وتفصيله ؛ ليكون المسلم على بصيرة من أمره ، فلا يقحم نفسه في جدالات أو  أفكار  عقيمة مبنية على أوهام ومفاهيم خاطئة ، قد  تنتهي بخسارته في دنيه ودنياه على حد سواء . فأقول مستعينا بالله تعالى:

أولا :   على المؤمن أن يحسن الظن بربه

جاء في الحديث :" لَا يموتن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ يحسن الظَّن بِاللَّه؛ فَإِن حسن الظَّن بِاللَّه ثمن الْجنَّة "[1] فحسن الظن بالله  شعبة أساسية  في الإيمان ، بل و هو من صميم توحيد الخالق جل في علاه ؛ لأنه - - حسن الظن بالله - - يتضمن تنزيه الخالق عن صفات النقص التي لا تليق بجلاله .

-       فالله تعالى لا يظلم أحدا.

-       و لا يريد بعباده إلا الخير .

-       وإنما خلق عباده ليكرمهم لا ليهينهم .

-       و ما شرع حكما إلا لمصلحة عباده.

-       و لا يفعل أمرا إلا لحكمة بالغة ، قد نعلمها وقد نجهلها .

هذا ما ينبغي أن نعتقده في الله تعالى ، وهــــذا من حسن الظن به جل وعلا ، جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي"[2] وفي رواية: "فليظن بي ما شاء" أي من الظنون الحسنة.



ثانيا : أحذر أن تعكر المصائب صفو علاقتك بربك !

الله تعالى يدعونا إلى محبته ، ويدعونا إلى حسن الظن به  ، لكن المصائب إذا لم يحسن العبد تفسيرها  قد تعكِّر صفو العلاقة  فيما بين العبد و ربه ، نعم : أيها الإخوة ، قد رأيت بعضهم يقول :

-       ما ذا فعلت لربي حتى يفعل بي كل هذا ؟ سبحان الله .

-       إن الله تعالى يمنح اللحم لمن لا أسنان له ! سبحان الله .

-       و إذا مرض أحد أو أصابته مصيبة ما ؟ قالوا : أفعاله ! يستحق ذلك ! سبحان الله .

-       ومنهم من يظن ظنا سيئا بربه إذا رأى المصائب تنساق إليه -- إذا افتقر أو مرض أحد أبنائه...... قال لماذا يفعل الله كل هذا بي ؟  سبحان الله ..... وقس على ذلك ما أشبهه .

أيها الإخوة : هذا من فساد الاعتقاد الذي يحجب صاحبه عن الله تعالى ؛ ولهذا  كان من الإيمان أن تحسن تفسير المصائب ، خاصة  إذا كانت تلك المصائب كبيرة و مصيرية .

ثالثا : المصائب  بلاء وابتلاء

علينا أن نعلم أن ما يصيب العباد من مصائب منه  ما هو   بلاء  ومنه ما هو ابتلاء ، وهناك فرق بينهما .

[ أ ]  : البلاء :

البلاء عقاب وانتقام يرسله الله  على الكافرين و الظالمين ، فيأتيهم بغتة فيمحقهم محقاً ، لكن الله تعالى لا يأخذ للظالمين حين ظلمهم ، بل يملي حتى إذا أخذهم لم يفلتهم ، يقول الله تعالى: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " فالله تعالى لا يعاجل الظالمين بالعقوبة ، فمن أسمائه الحسنى : ( الصبور ) وهو الذي  لا يعجل العقوبة للكفرة والفجرة والظلمة ،  و لا  تتعجب من ذلك ، و لا تقل :  كيف يمهل هذا الظالم ، و يدعه يقتل  و يظلم ويفسد في الأرض.....!  لا تقل هذا ، وتأمل معي هذه القصة ، قال الله تعالى :"وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ " عندما رأى الملكوت ، التي أراه الله إياها  ، و كشف له الحجب ،  فرأى ما لا يراه في حياته البشرية العادية، وكان من جملة ما رأى :

--1رأى إنساناً ظالماً يضرب يتيماً، فقال له: يا ظالم، أما في قلبك رحمة، أتضرب اليتيم الذي لا ناصر له إلا الله ، ثم دعا عليه قائلا : " اللهم أنزل عليه صاعقة من السماء فنزلت صاعقة على الرجل"

 --2و رأى أيضا لصاً يسرق مال أرملة، و أم الأيتام، فقال له: "يا رجل أما تجد إلا هذا ؟! اللهم أنزل عليه صاعقة... "
وتكررت مثل  هذه المشاهد مع إبراهيم ، فقال له الله سبحانه: "يا إبراهيم، هل خلقتهم؟"
قال: لا يا رب ، قال: " لو خلقتهم لرحمتهم، دعني وعبادي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم وأنا أرحم بهم من الأم بأولادها"[3]

هكذا نجد أن الله لا يعاجل بالعقوبة ، لكن إذا تمادى الظلمة في ظلمهم جاءهم البلاء ( العقاب )حينئذ ، انظروا إلى فرعون الطاغية : متى جاء ه العقاب ؟! متى غرق ؟! لقد كان ذلك  بعد سنوات طويلة، و قبل أن يأتيه العقاب  أرسل الله له موسى وهارون  وقال لهما : "وقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى " هذا فرعون  الذي هو من أكبر المجرمين في تا ريخ البشرية ، أمهله الله  .....لأن الله حليم وصبور ......لكن لما تمادى في طغيانه و و صل الأمر إلى ذروته: أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

فهذا هو البلاء أيها الإخوة : هو ما يصيب  الكافرين و الظالمين من عقاب ، فيمحقهم محقاً . "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد"

فاحذر أن تكون من الظالمين ؛ فالظلم مرتعه وخيم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً ******* فالظلـــــــم آخــــــــره يفضي إلى الندم
تنام عيناك والمظلـوم منتبه ******* يدعـــــــــو عليـك وعـــــين الله لم تنم

و لا يغرنك إمهال الله لك ، فإن الله يمهل و لا يهمل ، و لا توبة من الظلم إلا أن ترد المظالم إلى أهلها و تطلب منهم العفو والمسامحة ، وإن لم تفعل أخذك الله ولو بعد حين .

أتهزأ بالدعــــــــــاء وتزدريـه     *******    وما تدري بما صنع الدعاء


سهـــام الليل لا تخطي ولكـــن     *******     لها أمد وللأمـد انقضــــــاء


فيمسكها إذا ما شاء ربـــــــي      *******    ويرسلها إذا نفذ القضـــــاء

[ ب ] : الابتلاء:

 الابتلاء  يكون للمسلم ، يقال: بلي الثوب أي : خلق ، [ بمعنى صار قديما ] و تقول  بلوت فلانا: إذا اختبرته ، وسمي ما يصيب المسلم من الغم والهم ابتلاء لأنه يبلي الجسم ، قال تعالى : "ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع .........." . وقال عز وجل – في شأن إبراهيم - :" إن هذا لهو البلاء المبين" . والمقصود بالبلاء في هذه الآية : التكليف الشرعي ، فسمي التكليف  الشرعي بلاء للأمور الآتية :

1- أن التكاليف فيها مشاق على الأبدان ، فصارت من هذا الوجه بلاء.

2- أن التكاليف اختبارات ، ولهذا قال الله عز وجل: "ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم"

3- أن اختبار الله تعالى للعباد  تارة يكون بالمسار ليشكروا، و  تارة يكون بالمضار ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعا بلاء ، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر.[4]  

وإذن : فالابتلاء يكون للمسلم ، و هو نوعان:

النوع الأول:ابتلاء مسلم منحرف: مسلم مقصر ، بعيد عن الله ، لا يقيم الطاعات ، و يرتكب المعاصي، الطاعة ثقيلة على نفسه ، بينما للمعصية حلاوة في نفسه ........... و لكنه  فيه بذرة  خير ، فهذا يبتليه الله تعالى  ، كي يوقظه من غفلته، كي ينبهه قبل الممات ،  يبتليه الله لكي يرجع إلى طريق الخير والرشاد . وهذا النوع هو الذي تشير إليه الآية الكريمة  :"وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير .." فما يصيب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم و فيما يحبون ............ سببه ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو الله عنه أكثر مما يؤاخذ به ، فإن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .

والحكمة من هذا الابتلاء  لكي يرجع العبد إلى طريق الخير والرشاد ، قال الله تعالى : " وأخذناهم بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون "

 فكم من مصيبة كانت سببا في صلاح صاحبها واستقامته على منهج الله !! و كم من معصية كانت سببا في الوصول إلى الله !!

كان إبراهيم بن أدهم يتسور البيوت ويسرقها ، فتسور بيتاً مرة ، فرأى صاحب البيت يقوم بالليل ويصلي ويقرأ: قول الحق تبارك وتعالى : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله.." فقال إبراهيم : قد آن يا رب.. آن لقلبي أن يخشع ، لقد تأثر بكلام الله ، فتام وندم و صار إبراهيم بن أدهم التقي الزاهد الورع.............
وصدق صاحب الحكم العطائية حين قال :  ((  قد يفتح الله لك باب العمل، ويغلق عليك باب القبول. وربما يبتليك بالذنب فتتوب، فيكون سبباً للوصول))

سبحان الله ! قد يفتح الله باب العمل لأقوام فيصلون ويحجون ويتصدقون....ولكنه يغلق عليهم باب القبول ، لماذا ؛ لأن في أعمالهم  خلل ما ، ربما فيها عجب واستعلاء ، أو أنها  ليست خالصة لله وحده ،  و رب عمل صغير عظمته النية، ورب عمل عظيم صغرته النية.

فيجب علينا أن نخلص  أعمالنا لله ،  ونعوذ بالله أن نعجب بأنفسنا فنكون كأولائك القوم الذين طبع الله على قلوبهم ، فقتلهم العجب والغرور ، حتى نسوا عيوبهم وراحوا يفتشون عن عيوب الآخرين ، وحين لم يجدوها اجتهدوا وناضلوا في اختلاق عيوب ينفسون بها عن أمراضهم الكامنة في قلوبهم ، فاحذروا أيها الإخوة هذا الدرب فإنه – والله – لمن أبرز أسباب سوء الخاتمة  والعياذ بالله ، نسأل الله العافية .

النوع الثاني:ابتلاء مسلم مستقيم:

مسلم طائع لربه ، مستقيم على منهجه ، و لكن تنزل عليه الإبتلاءات من كل جانب ، فهذا حبيب الرحمن، لأن الله تعالى يريد أن ينقيه ، ليسير على الأرض وما عليه من  خطيئة،  هذا هو من قال فيه الحبيب – صلى الله عليه وسلم - "مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ " [5]    قال أيضا عليه الصلاة والسلام :  " إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم ينلها ابتلاه الله إما بنفسه أو بماله أو بولده ثم يصبره عليها حتى يبلغ به المنزلة التي سبقت له" [6]  فهذا الإنسان المستقيم على منهج الله ، قد تكون عنده بعض الهفوات- بحكم أنه بشر- فيريد الله تعالى أن ينقيه ويرفع درجاته .

ولنضرب لذلك مثالا توضيحيا :  مثلا أن الله سبحانه وتعالى ، كتب لهذا العبد درجة: ((100))  ولكن عمله لا يوصله إلا إلى  درجة ((50))  فيبتليه ليرتفع من درجة ((50))  إلى درجة  ((100)). وإذن :  فالابتلاء: فيه خير ، فيه مصلحة عائدة إلى المبتلى ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له "[7]

وأكثر الناس ابتلاءاً: الأنبياء ثم الأتقى فالأتقى ، والأصلح فالأصلح ،  فالابتلاء لهؤلاء إنما هو لرفع درجاتهم، قال رسول الله " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة "[8]
وجاء في الأثر : (( يقال يوم القيامة: ليقم الذين أجرهم على الله، فيقوم قومٌ قليل، يقولون: نحن أهل الصبر ، فينطلقون في أرض المحشر دون حساب ولا ميزان إلى باب الجنة، فيوقفهم الرضوان: من أنتم ؟ كيف تدخلون الجنة، ولم تقفوا لا لحساب ولا لميزان؟ فيقولون: يا رضوان، نحن لا نقف لا لحساب ولا لميزان، أما قرأت القرآن؟ فيقول: وماذا في القرآن؟ فيقولون: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فيقول: وكيف كان صبركم ؟
فيقولون: نحن قومٌ كنا  إذا أعطينا شكرنا وإذا مُنعنا صبرنا وإذا ابتلينا استغفرنا فيقول: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون))[9]

 يقول الله تعالى: "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"



آداب الابتلاء

على العبد أن يعلم أن الله  رحمن رحيم ، لا يريد بعبده  إلا الخير. فإذا أمرضه، أو ابتلاه فلمصلحته، كيف ذلك ؟
كان أبو ذر جالساً بين الصحابة، ويسألون بعضهم: ماذا تحب؟ فقال: أحب الجوع والمرض والموت ، قيل: هذه أشياء لا يحبها أحد، قال: أنا إن جعت: رق قلبي ،  وإن مرضت خف ذنبي، وإن مت لقيت ربي.
فأبو ذر نظر إلى حقيقة الابتلاء و حكمته ، وهذا من أدبه رضي الله عنه .

 و جاء في سيرته: أنه كان له صديق في المدينة، وهذا الصديق يدعوه إلى بستانه ويقدم له عنقود عنب  ، فكان أبو ذر يأكل العنقود و يشكر صاحبه ، وهكذا لعدة أيام......و في أحد الأيام  قال أبو ذر صاحب البستان : بالله عليككُلْ معي،  فمد صاحب البستان ليأكل، فما تحمل الحبة الأولى، لأنها كانت  مرة حامضة، فقال: يا أبا ذر، أتأكل هذا من أول يوم ؟ فقال: نعم. قال: لم لم تخبرني؟ قال: أردت أن أدخل عليك السرور، فما رأيت منك سوءاً حتى أرد عليك بسوء.

الله أكبر : هذا إنسان نبيل  يعلمنا حسن الأدب، إنه لا يريد أن يحرج  صاحبه، و نحن اليوم عندنا أناسٌ متخصصون في إدخال الحزن على الناس ، حسبنا الله ونعم والوكيل ....................................................................
أخي إن الله قد أنعم عليك بنعم لا تحصى ولا تعد .....فإذا ابتلاك فلا تضجر واصبر واحتسب ، وتأدب مع سيدك ومولاك ، فما ابتلاك إلا لمصلحتك ، وما ابتلاك إلا لأنه يحبك .

وقد أعجبتني هذه الكلمات للدكتور راتب النابلسي، قال حفظه الله  :

((...........بعض الإخوة الأكارم يتوهَّمون توهماً أن الإنسان إذا استقام على أمر الله أصبحت حياته حياةً رغيدةً، غنَّاء، كلها مسرَّات، كلها توفيق، الدخل كبير، والصحة طيبة، والمكانة الاجتماعية عالية، هذا يتناقض مع الابتلاء، مَن قال لك ذلك ؟ إذا استقمت على الله فأنت أسعد الناس، ولكن لا على طريقتك، لا على تصميمك، لا على كما تريد ؛ ولكن على ما يريد الله عزَّ وجل................ أقول لكم الحقيقة: إنك إذا آمنت بالله عزَّ وجل، واستقمت على أمره لابد من أن تبتلى، وأُأَكد لكم مرةً ثانية، فرقٌ كبير بين الابتلاء وبين البلاء، البلاء مرض عضال، البلاء تدمير المال.......... أما الابتلاء ( فهو امتحان ....... (أنا أقول لكم: ليست البطولة ألا تواجه الصعاب، ليست البطولة ألا تواجه مشكلة، ليست البطولة ألا تواجه مصيبة، ليست المشكلة ألا تواجه مُعْضِلَة، ليست المشكلة ألا تواجه ضائقة........في البيت، و في العمل، و في الصحة، وفي الأولاد ، ولكن بطولة المؤمن كلها كامنةٌ في أن تقف الموقف النبوي الكامل من هذه المشكلة ...................... ألم  يواجه النبي عليه الصلاة والسلام مشكلة حديث الإفك ؟ هل تحتمل أنت هذه المشكلة ؟ هل تحتمل أن يقول الناس عن أهلك ما يقولون ؟ هل تحتمل أن تتحدَّث المدينة كلها عن أهلك ؟ عن انحرافهم ؟ هذه مشكلة، واجه النبي مشكلة في أهله، مشكلة في أولاده حينما مات ابنه إبراهيم، واجه مشكلة في الدعوة حينما ذهب إلى الطائف، واجه مشكلة مع قريش حينما قاطعوه، واجه مشكلة مع قريش حينما حاربوه، واجه مشكلة حينما ائتمروا عليه، واجه مشكلة وفاة الزوجة، وفاة العم، وفاة الابن، حياة النبي عليه الصلاة والسلام كلها مشكلات وصعاب، ولكن بطولته صلى الله عليه وسلم أنه كيف واجه هذه الصعوبات بأكمل موقف ؟ فأنت لا تفرح إذا كانت حياتك خط مستقيم لا معنىً له، لا، افرح إذا جاءتك المشكلة ووقفت منها الموقف الشرعي ؛ كنت صابراً، أو كنت موحداً، أو كنت مطيعاً، أو كنت محسناً...............))

من خلال ما ذكره فضيلة الدكتور أقول ينبغي للمؤمن أن بضبط تصرفاته بميزان الشرع ، وأن يواجه مشكلات الحياة بالحلم والأناة ، و أن يكون كالجبل لا تحركه العواصف مهما عتتت ، وكالشجرة ترمى بالحجارة فترمي بالثمار  ...... وكالأسد يسمع نباح الكلاب فلا يكلف نفسه عناء الالتفات إليها ...

خلاصة الدرس

و من خلال ما سبق يمكن أن نستخلص جملة من النتائج أهمها :

1-   أن الله لا يريد بعباده إل الخير ، ولذلك ينبغي أن نحبه وأن نحسن الظن به .

2-  أن الظن السيئ بالله تعالى من فساد الاعتقاد ، وفساد الاعتقاد يحجب العبد عن الله تعالى .

3-  أن البلاء هو ما يصيب الكافرين والظالمين جزاء وفاقا ، ولكنه تعالى لا يعاجلهم بالعقاب  بل يستعتبهم  و  يمهلهم لعلهم يرجعون ، لأنه سبحانه و  تعالى صبور و حليم

4- أن الابتلاء هو ما يصيب المسلم ، و هو لأجل مصلحته عاجلا  وآجلا ، وهو نوعان :

       أحدهما : يصيب المسلم المنحرف ـ وهو تنبيه له ليستقيم .

       والثاني :   يصيب المسلم المستقيم ليكون سببا في رفع درجاته .

5- أنه ينبغي للمسلم في سائر الأحوال أن يتأدب مع الابتلاء ، فلا يضجر و ليصبر و ليحتسب ، و ليقل : " إنا لله وإنا إليه راجعون "

6- وعلى المبتلى أن يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه  لم يكن ليصيبه ، وعليه أن يوقن بأن مع العسر يسرا ، وأن الفرج آت لا محالة ، و أن من أعظم القربات  إلى الله تعالى انتظار الفرج بعد الشدة.

يا صاحب الهمِّ إنَّ الهم منفرجٌ أبشِر بخــــــــــيرٍ فإنَّ الفارج الله

اليأس يقــطع أحياناً بصاحبه لا تيأسنَّ فإنَّ الكــــــــــــــــافي الله

الله يُحدِث بعد العسر ميسرة لا تجزعنَّ فإن القــــــــــــــاسم الله

إذا بُليت فثِقْ بالله وارضَ به إنَّ الذي يكشــــــف البلوى هو الله

واللهِ ما لكَ غير الله من أحدٍ فحســــــبُك الله في كــــــــلٍ لك الله

وأخيرا أيها الإخوة أقول بصراحة : أنني قد لمست بالتجربة أن الله يبتلي عبده ليؤهله بذلك إلى القيام  بمهام عظيمة ، لا يستطيع القيام بها مالم يمتحن ، لأن ذلك الامتحان هو بمنزلة التدريب والتمرين له على تحمل المسؤوليات الجسام ، من خلال خوض غمار التجارب التي تقيه من الفشل وتمكنه من النجاح في حياته ومهامه ، وقديما قيل :    أفاضل الناس أغراض لذا الزمن .........يخلو من الهم أخلاهم من الفطن.
ومما يؤيد هذا الذي قلته لكم ، ما قرره أهل العلم : (( أن التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء )) يوسف الصديق قال  الله في شأنه : "وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " ( يوسف 56)
لكن متى تم له ذلك ؟ لقد كان بعد ابتلاء عظيم ، اتهام في النزاهة والعرض ، وسجن بسبب ذلك ظلما وزورا .
والمتأمل في حياة الأنبياء والصالحين ، والعظماء عبر التاريخ يجدها لا تخرج عن هذه الحقيقة اللتي ذكرتها لكم أيها السادة .
 وأرجو أن أكون قد أعطيتكم صورة واضحة المعالم عن الفرق بين البلاء والابتلاء ، وحقيقة كل منهما ، وبهذا يتبين لنا الخطأ الجسيم الذي وقع فيه أولائك الوعاظ الذين بدل أن يسلوا المؤمنين المبتلين ، زادوهم هما وغما ؛ إذ شبهوهم بعاد وثمود وقوم نوح الذين أخذهم الطوفان .....اللهم فقهنا في ديننا واجعل هذه الكلمات في ميزان حسناتنا ، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


[1] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 1/396.
[2] متفق عليه عن أبي هريرة.
[3]
[4] انظر :غريب القرآن للأصفهاني - (ج 1 / ص 61) ومفردات ألفاظ القرآن الكريم - (ج 1 / ص 117) .

[5] الترمذي .
[6] أخرجه ابن منده وأبو نعيم.
[7] رواه مسلم.
[8] سنن الترمذى برقم(2578 )
[9]