الحمد لله تعالى نحمده على تفضله وإنعامه، ولطفه
وإحسانه، فله الحمد على كل نعمة أنعم بها علينا ظاهرة أو باطنة، ونسأله تعالى أن
نشكر نعمه ولا نكفرها، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله لغني عن
العالمين، ونشهد أن لا إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبد الله
ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين. أما بعد/
فإن الله تعالى خلق
عباده في هذه المعمورة ولم يتركهم هملا دون حفظ ورعاية ، بل شرع لهم من الشرائع ،
ووضع لهم من الأحكام ، ما يرعى مصالحهم ويحفظ سلامتهم ، في عاجلهم وعاقبة أمرهم ،
ومن ذلك أن الله حرم كل ما من شأنه أن يلحق ضررا بالنفس أو يلحق ضررا بالغير ،
فقال جل ثناؤه : " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"[1]
. وقال تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرًا"[2].
وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار"[3]. يعني أن المكلف منهي شرعا عن كل فعل يترتب عليه إضرار بالنفس أو إضرار
بالآخرين ، سواء قصد صاحبه الإضرار أم لم يقصد .
ومن
المضار المحرمة والتي استفحل أمرها بشكل رهيب :
مضارة الناس في طرقاتهم ؛ بمخالفة
أنظمة السير وقوانين المرور ، والتي كثيرا ما يترتب عليها تعريض حياة الناس للخطر ،
حتى أصبحت حوادث المرور حربا مدمرة ، تهدد المئات بل الآلاف من الأرواح البريئة ، ووصلت آلامها وأحزانها
إلى كل البيوت الجزائرية تقريبا ...
فكم من شاب معافى أمسى في عداد المقتولين ، وكم
من سليم صحيح أضحى في صفوف المعوقين ، وكم من صبي لا ذنب له دُهِس فصار من
الهالكين ، وكم من العقلاء لهول الصدمة صاروا من المجانين ، والكثير من ضحايا حوادث الطرقات يموتون
ويتركون وراءهم معاناة وآلاما ، لأسرهم ولأقربائهم ، فكم من أطفال تيتمت وكم من
نساء ترملت ، بسبب الحرب المدمرة للطرقات ، التي فاق عدد ضحاياها .. ضحايا الحروب وضحايا فيروس السيدا أو الجلطة
الدماغية ونحوها ... حيث تشير التقديرات إلى أن معدل الوفيات في العالم - بسبب
حوادث المرور - قد بلغ ثلاثة آلاف ومئتان وأربعون شخصاً في اليوم الواحد ... وتشير
إحصاءات دقيقة في بلدنا هذا – الجزائر – إلى أن عدد حوادث المرور قد بلغ 7142 حادث خلال شهري جولية وأوت من سنة 2015. وقد نجم عن
ذلك 1094 قتيل ، و12322
جريح.
لذلك قلت أن حوادث السير قد صارت حربا
مدمرة حقا ، والمؤسف أنها لا تزال في تنامي وتزايد مستمر ، ولا سبيل إلى التقليل
من حجم هذه الكارثة والتخفيف من حدتها إلا بالتزام قواعد السير في الطريق العام ،
المعبر عنها بلغة العصر (بقانون المرور) ، وهو قانون معتبر في الشريعة الإسلامية ،
بمعنى أن مخالفه والمستهين به يعد عاصيا وآثما عند الله تعالى .
فمن القواعد الفقهية المجمع عليها : أن
(المرور في الطريق العام مباح مقيد بشرط السلامة) ، بمعنى أنه يحرم شرعا السير في الطريق العام إذا غلب على
الظن أنه – أي السير – سيؤدي إلى إلحاق الضرر بالآخرين ، وتطبيقا لهذه القاعدة فإنه
يجب على السائق أن يأخذ بأسباب السلامة ، ومن ذلك :
1- أن يتعاهد السائق ويراقب سيارته قبل
تسييرها في الطريق العام ، فيراقب العجلات ونظام المكابح ،
ويراقب البطارية والأضواء ، ويراقب زيت المحرك وماء ومساحات الزجاج
ونحو ذلك ... وهذا واجب عليه ؛ لأن التفريط يعتبر تعديا يعاقب صاحبه ويجب عليه
الضمان.
ومن الجهل والحماقة أن نفرط ثم نحتج
بالقدر ، فنقول هذا أمر قدره الله ، فهذا لا يصح بل هو افتراء على الله ، فقد جيء مرة إلى
سيدنا عمر بشارب خمر فقال : "أقيموا عليه
الحد" ، فقال الرجل : "والله يا
أمير المؤمنين إن الله قدر علي ذلك" ، فقال عمر: "أقيموا عليه الحد مرتين ؛ مرة لأنه شرب الخمر ، ومرة لأنه
افترى على الله "، ثم قال : "ويحك
يا هذا ، إن قضاء الله لن يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار". ولذلك لا ينبغي أن نفرط ثم نقول هذا أمر مقدر ومكتوب ، فالاحتجاج
بالقدر لا يلغي العقوبة ، ولا يلغي الجزاء ، ولا يعفيك من المسؤولية أمام الله تعالى .... كان أحد الأعراب قد أصيبت جماله بمرض الجرب ، فقال له سيدنا
عمر :" ما
تفعل بهذا الجمل الأجرب ؟" فقال الأعرابي: "إني أدعو الله أن أشفيه" ، فقال له عمر: "هلا جعلت مع الدعاء قطراناً".
وأنت أيها السائق - المتوكل على
الله - هلا قدمت أسباب السلامة قبل دخولك إلى الطريق العام ؟ فمن التوكل على الله أن تأخذ
بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأن تلك الأسباب ليست بشيء.
2- الأمر الثاني من أسباب السلامة أن يقود السائق
سيارته بتأني وهدوء، وأن يتجنب السرعة المفرطة ، فالتأني خلق قويم قد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أمته ، حيث قال
للأشج عبد القيس :
" إن فيك
خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة "
والأناة : تعني الهدوء في السلوك والتصرفات
و التثبت و عدم التهور والاستعجال .. وكما قيل :" في التأني السلامة
وفي العجلة الندامة". والسرعة المفرطة منافية للأخلاق والقيم ، يقول
الفقهاء أن الإنسان المسلم ينبغي أن يتصف بصفتين ، هما :(الضبط
والعدالة) ، والعدالة صفة نفسية خلقية ، ومن سقطت عدالته فقد سقطت
مروءته ، والحالات التي تسقط فيها عدالة
الرجل ومروءته كثيرة ذكر منها الفقهاء:
(إطلاق العنان للفرس)
والعنان هو اللجام الذي
يتحكم به الفارس في فرسه ويكبح به جموحه ، ويقاس عليه في عصرنا إطلاق العنان للسيارة
؛ لتسير بسرعة زائدة ، فالسائقون الذين يسوقون بتهور وسرعة مفرطة هم أناس ساقطوا المروءة
، مطعون في عدالتهم ، لأنهم معتدون ظالمون ؛ فالدقائق التي يريدون توفيرها من خلال
السرعة الزائدة يترتب عليها إلحاق الأذى بالآخرين ، وقد يزهقون فيها أرواحا بريئة ، والله تعالى يقول : "من قتل نفسا
بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"[4] . فأي عدالة وأي مروءة بقيت لمن يتسبب في قتل الناس
جميعا ؟؟
3-
ومن أسباب السلامة
احترام إشارات المرور ، كإشارة التوقف ، وإشارة تحديد السرعة ، وإشارة محاذاة
اليمين ، وإشارة عدم
التجاوز ..... فيحرم على السائق مخالفة هذه الإشارت ونحوها ؛ لأنها إشارات منظمة للسير في الطرقات الداخلية
والخارجية ، درءا لمفسدة إزهاق الأرواح ، وجلبا لمصلحة حفظ الأنفس من الإهدار ، فهي من قبيل المصالح
المرسلة التي تعد أصلا من الأصول الشرعية الثابتة ، وقد تعارف عليها البشر في
العالم بأسره ، وأجمعوا على ضرورة التقيد بها ، والعرف والإجماع كلاهما أصل من
الأصول الثابتة في شريعتنا.
ولذلك فمن تجاوز –
مثلا – في موضع لا يسمح فيه بالتجاوز ، وتسبب في وقوع حادث ، فإن قتل غيره فهو
قاتل متعمد ، ينطبق عليه قول الله تعالى : " وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيما "[5]
.
وإن قتل نفسه فهو
منتحر ينطبق عليه قول الله تعالى : " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا".
4- ومن أسباب السلامة عدم مضايقة الناس
في الطريق ، راكبين كانوا أو راجلين ، ومن ذلك:
- أن بعض السائقين
يتوقف أحيانا في وسط الطريق العام ؛ ليتكلم مع أحد معارفه ، فيضيق على الناس في
طرقاتهم ويتسبب في حدوث المشاحنة والمنازعة بينهم .. وسلوك مثل هذا يدل على مدى
الانحطاط الخلقي لدى هؤلاء السائقين ، وصاحبه ملعون بنص الحديث :" من
آذى المسلمين في طريقهم وجبت عليه اللعنة "[6]. وهو
نص عام في كل ما يؤذي الناس في طرقاتهم.
- ومن السلوكيات الخاطئة في الطريق
أيضا أن تجد سائقا لا يسمح للسيارة التي خلفه أن تتجاوزه ، وهو سلوك قد يترتب عليه
أذى ، وهو مخالف لقوله تعالى : " إِذَا قِيلَ
لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ"
فينبغي أن نفهم هذه الآية بمعناها الواسع ، فالتفسح ليس مطلوبا في المجالس فقط ، بل
هو في الطرقات أشد طلبا ؛ لما يترتب على
التضييق على السائقين من ضرر وأذى.
لذلك فللسياقة آداب
وأخلاق لا تقل أهمية عن آداب المساجد ، ولن تستقيم عباداتنا الشعائرية كالحج
والصلاة ... حتى تستقيم عباداتنا التعاملية كاحترام الناس في طرقاتهم ...
وفي الختام – ونظرا لضيق الوقت –
فإننا ننبه إلى أمور هامة يتوقف عليها هي الأخرى تحقق السلامة في الطرقات:
1- تعبيد الطرقات وإصلاحها ، وهي مهمة
تقع على عاتق المسؤولين ، يحدوهم في ذلك قول سيدنا عمر
: "والله لو تعثرت بغلة في العراق ـ هو في المدينة ـ لحاسبني الله عنها ، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر
؟" فمن أولى مسؤوليات الحكام وواجباته توفير وسائل الأمن والسلامة في
الطرقات.
2- عدم التساهل في منح رخص السياقة ، وهي
مهمة المشرفين على مدارس السياقة ، يحدوهم في ذلك قول الله تعالى : " يا أيها الذين
آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون"[7] . فإن تساهلوا في هذا الأمر تحت أي
غطاء ، كانون خائنين لله ووللرسول وللأمة وللوطن .. وقد يترتب على تساهلهم في منح
رخص السياقة كثير من سفك الدماء وزهق الأرواح فيكونوا مشاركين فيها.
3- الصرامة في حفظ قانون المرور وتطبيقه
قانونه على الجميع بدون استثناء ، وهي مهمة رجال الأمن ، يحدوهم في ذلك
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...". وعليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار التمييز بين
المخالفة المتعمدة ، وبين المخالفة التي قد تحدث هفوة من غير قصد ، وأن يعطوا لكل مخالفة ما يناسب حجمها.
جعلني الله وإياكم من عباده
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق