مقدمة:
إن في سيرة الصحابة الكرام لدروسا وعبرا لأولي الألباب والبصائر، فهم كالشمس التي يهتدي الناس بنورها في ظلمات البر والبحر؛ بحيث يجد كل ناشد للكمال في سيرهم ما يقر عينه ، ويريح ضميره ، ويشرح صدره ، وينير السبيل أمامه ، إلا أن ذلك قد تعذر على من حبسوا أنفسهم في سجون الهوى والدنايا ؛ حتى عميت قلوبهم وانطمست بصائرهم ، فبدل أن يلتمسوا أشعة مضيئة من نور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم راحوا يؤذونهم ويسيئون إليهم ، ولا عجب:
فقد تنكر العينُ ضوءَ الشمس من رمد ***وينكرُ الفمُ طعمَ الماءِ من ســـقمِ
ومما طالته ألسنة الدجالين وأقلام
المستحمرين بالسوء اجتماع الصحابة في سقيفة بني ساعدة لمناقشة أمر الخلافة ، وبعد
قراءة متأنية لمجريات هذا المؤتمر التاريخي ، خرجت بجملة من النتائج الهامة ، فيما
يلي بيان بعضها بإيجاز:
أولا: خلاصة المؤتمر.
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
اجتمع الصحابة رضي الله عنهم في سقيفة بني ساعدة ؛ لمناقشة أمر الخلافة قبل دفن
النبي صلى الله عليه وسلم ، ودار بينهم حوار رفيع المستوى لم يشهد التاريخ أرقى
منه ، وطرحوا فيه عدة مقترحات معللة بالسوابق الحسنة في الإسلام وأخرى بالنظر الى
مستقبله ومصالحه العليا ، ثم اتفقت كلمتهم بعده على تنصيب أبي بكر الصديق رضي الله
تعالى عنه خليفة للمسلمين.
ثانيا: دلالات المؤتمر.
يؤخذ من مؤتمر السقيفة عدة دلالات
هامة ، منها:
1- بقاء الأمة دون حاكم يسوس شؤونها ، ويرعى مصالحها ، أمر في غاية
الخطورة ؛ فهو ذريعة للفساد والفتن والفوضى والاضطراب ...
لأجل ذلك سارع الصحابة - وهم افقه الناس - إلى تنصيب حاكمهم قبل دفن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، إلا ان هذه الحقيقة والتي تليها عميت عنها أبصار الكتاب المستحمرين الذين مدوا ظهورهم ليمتطيها كل دجال أثيم ؛ فراحوا يتقئيون ما حوت أوعيتهم من رجس نتن...كقولهم أن الصحابة لم يكترثوا لموت نبيهم ؛ فتركوه مسجى وهرعوا إلى السقيفة للتهارش على كرسي الحكم ..!!
لأجل ذلك سارع الصحابة - وهم افقه الناس - إلى تنصيب حاكمهم قبل دفن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، إلا ان هذه الحقيقة والتي تليها عميت عنها أبصار الكتاب المستحمرين الذين مدوا ظهورهم ليمتطيها كل دجال أثيم ؛ فراحوا يتقئيون ما حوت أوعيتهم من رجس نتن...كقولهم أن الصحابة لم يكترثوا لموت نبيهم ؛ فتركوه مسجى وهرعوا إلى السقيفة للتهارش على كرسي الحكم ..!!
2-
أن الحزن وصدمات المصائب العظيمة لا ينبغي أن تشغل المسلمين عن
القيام بجلائل المهمات ، خاصة تلك التي تتعلق بالامور المصيرية للأمة كأمر الخلافة
، ولهذا نجد الصحابة من الأنصار والمهاجرين على الرغم من فاجعتهم بوفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وعلى الرغم مما يكنون له من المحبة التي تفوق التصور ... ألا
أن ذلك كله لم يثنهم عن المبادرة إلى تنصيب خليفة للمسلمين ، لأن الأمة دون خليفة
يرعى مصالحها موقوفة على الخطر ، وبهذا يكون الصحابة قد ضربوا اروع الأمثلة في
تطبيق ما تعلموه من نبيهم صلى الله عليه وسلم :" إنما الصبر عند الصدمة الأولى"[رواه البخاري ومسلم]، ولا صدمة أعظم من فقد النبي صلى الله عليه وسلم ،ومع ذلك فقد
ملك الصحابة انفسهم وبادروا إلى القيام بما تمليه عليهم حقائق هذا الدين ، فلله ما
أروعه من موقف يقفه الصحابة الكرام ! وما احوج الأمة إلى أن تقتفي آثارهم لا سيما
في هذه المرحلة الصعبة التي توالت فيها الصدمات من كل جانب.
3-
يدل فعلهم هذا على عدم التنصيص بالخلافة ، لا لأبي بكر ولا لعلي
ولا لغيرهما .... فلو كان هناك تنصيص بالخلافة لما طرحت القضية للحوار والمناقشة ،
فمن المسلم به أن الصحابة الكرام لا يناقشون أمرا منصوصا عليه ، وهم اعلم الناس
بقوله تعالى:"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا أن تكون لهم
الخيرة من أمرهم"[الاحزاب36] ، وفي غزوة بدر قال الحباب بن المنذر - وهو احد أعضاء مؤتمر
السقيفة - :"يا رسول الله أهذا منزل أنزلكه الله ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة....؟" [السيرة النبوية لابن كثير402/2]
يعني أنه إذا كان الأمر من قبيل
الوحي فلا مجال لمناقشته ، وكذلك الشأن هاهنا ، فلو كانت الخلافة منصوصا عليها لما
طرح امرها للمناقشة أصلا ، أما استدلالهم بتقديم ابي بكر للصلاة ونحوه ... فهي
مجرد قرائن استندوا إليها في ترجيح أحقية أبي بكر بالخلافة ، من هنا يتبين لك أن
ما يذكره الشيعة من قضية التنصيص بالخلافة لعلي إنما هي أوهام مبناها على التأويل
الخاطئ أو الكذب المختلق المصنوع.
4-
أن التنصيص بالخلافة لعلي رضي الله عنه كما يقول الشيعة يتعارض مع
ما هو مقرر في الشريعة الاسلامية من مبدأ الشورى في اختيار الحاكم ، (وأمرهم شورى بينهم)[الشورى38] ، وعلي بن ابي طالب هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج
ابنته فاطمة عليها السلام ، ولو أوصى له النبي بالخلافة لكان ذلك توريثا عائليا
للحكم في الاسلام ، وتعالى دين الله عن ذلك علوا كبيرا ، ولهذا لم يوص صلى الله
عليه وسلم بالخلافة لا لعلي ولغيره ، وقد كان پإمكانه أن يوصي - لو أراد - فقد خرج
اثناء مرضه وخطب في الناس، ومما قال لهم :
"عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة
الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده" ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه - إذ علم ما يقصده النبي صلّى
الله عليه وسلم - وناداه قائلا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فقال صلّى الله عليه
وسلم:"على رسلك يا أبا بكر، أيها الناس
إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر
خليلا ، ولكن أخوة الإسلام. لا تبقينّ في المسجد خوخة إلا خوخه أبي بكر "[متفق عليه واللفظ لمسلم].
فما الذي منعه صلى الله عليه وسلم أن يوصي بالخلافة لعلي كما زعمت الشيعة ؟ بل هو قد ذكر في خطبته أبا بكر الصديق ، ومع ذلك لم يقل اهل السنة أنه أوصى له بالخلافة.
5- وفي هذا المؤتمر تجلت حكمة الشيخين أبي بكر وعمر وحنكتهما السياسية
وحرصهما على مستقبل الإسلام ، فما هو إلا أن بلغهما أمر اجتماع الأنصار في سقيفة
بني ساعدة حتى سارعا إلى عين المكان؛ لاستدراك الوضع قبل أن تتفلت الأمور وتخرج عن
نطاق السيطرة، وقد لفت أبوبكر أنظار الأنصار إلى قضية هامة ، مبناها على فقه
الواقع والنظر إلى أصل اعتبار المآل ، لخصها بقوله:"أن العرب لا تدين إلا إلى هذا الحي
من قريش". يعني أنه لو أسند أمر
الخلافة إلى رجل من الأنصار لربما آل ذلك الى تمزق الأمة الأسلامية بخروج بعض
القبائل العربية عن الطاعة؛ بناء على أن العرب ألفت السيادة العربية في قبيلة
قريش، وهذه نظرة سياسية ثاقبة وحجة شرعية دامغة جعلت الأنصار - وهم أفقه الناس -
يتهافتون بعد سماعها على مبايعة أبي بكر حتى كادوا ان يطئوا سعد بن عبادة بأقدامهم
، وهم الذين جاؤوا به لينصبوا خليفة للمسلمين ، ولكن لما استبان لهم الحق في حجة
أبي بكر أقبلوا عليه مذعنين ، فلله ما اعظم اصحاب رسول الله صلى عليه وسلم ! وما
أحوج الأمة إلى إن تقتفي آثاراهم الطيبة !
6-
لقد كان انتخاب أبي بكر خليفة للمسلمين بتوفيق من الله تبارك
وتعالى، فقد حدثت فتنة عظيمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، حيث ارتدت قبائل
عربية عن الاسلام ، فمنهم من ادعى النبوة ومنهم من منع إيتاء الزكاة ، ولقد كان
أبو بكر الصديق الرجل المناسب لهذه المرحلة الصعبة ؛ إذ تحرك فورا للقضاء على هذه الردة
في جزيرةالعرب ، وإخضاع سائر القبائل العربية لحكم الإسلام.
ولو تولى الخلافة غيره في هذه
المرحلة لأدى ذلك إلى مآلات غير محمودة ، فقد لقي أمر محاربة المرتدين معارضة من
بعض الصحابة ، كعمر بن الخطاب ، فكان رد الصديق حازما فقال رضي الله عنه :"وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ
فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ... وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا
كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ الله لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ .. "[رواه البخاري]. ثم انشرحت صدور المسلمين لما انشرح له صدر أبي بكر ، واجتمعت
كلمتهم على ضرورة استئصال الردة ، التي لو تركت - كما رأى عمر - لهوت بأمة الاسلام
في مكين سحيق ، فلله ما أعظمك وما أروعك يا سيدي يا ابابكر!! ولله الحمد والمنة
الذي وفق المسلمين لاختيارك خليفة لهم.
7- الدلالة السابعة والأخيرة هي محبة علي لأبي بكر وحرصه على سلامته وقناعته
التامة بخلافته ، هذه الحقيقة يترجمها لنا موقف علي حينما أراد أبوبكر أن يخرج
لقتال المرتدين بنفسه أمسك علي بزمام راحلته وقال له :"يا خليفة رسول الله
أقول لك ما قال رسول الله يوم أحد: لمّ سيفك وأمتعنا بنفسك، فو الله لئن نكب
المسلمون بك لن تقوم لهم قائمة من بعدك"[رواه ابن كثير في البداية والنهاية من حديث عبد الله بن عمر وعائشة].
فرجع أبو بكر نزولا عند رغبة علي
رضي الله تعالى عنهما وعن جميع الصحابة والتابعين...والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق