ما ينبغي أن يتسلح به
المفتي – في هذا الجانب - أن يكون عارفا بالأصول الكلية التي قام عليها بنيان
التشريع الإسلامي ، والتي من أهمها وفي مقدمتها أصل: "اعتبار
المآل". وهو أصل عظيم ، صعب مورده ، حلو مذاقه ،
محمود مآله.
وفي هذه المحاضرة بيان لحقيقته
، وحجيته ودلائل اعتباره ، وضرورة مراعاته في الفتوى ، وبعض تطبيقاته الفقهية
، وآثاره في الحفاظ على المرجعية الدينية والوحدة الوطنية ، وذلك في المطالــــــــب
الأربعة الآتية:
المطلب الأول : حقيقته
اعتبار المآل
|
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول : تعريف "اعتبار المآل" باعتباره
مركبا إضافيا:
(الاعتبار) في
اللغة يعني :"التَّدبرُ ، والنَّظرُ ، والاتعاظ ، والاعتداد بترتب الحكم ".
وفي الاصطلاح:عرفه الطاهر بن بن عاشور - في التحرير
والتنوير - بأنه : "النظر في دلالة
الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها".
وأما (المآل) فهو في اللغة : مِنْ آلَ الشَّيْءُ ، يَؤُولُ
أَوْلاً ومَآلاً ، إذا صارَ وانتهى ورَجع ، وأغلب المعاجم اللغوية تَرُدُّ
معنى المآل إلى المرجع والمصير والعاقبة. وهو في الاصطلاح :
عاقبةُ
الفعلِ ونتيجته المُتَرَتِّبةُ عليه سواء كانت خيراً أم شراً، وسواء كانت
مقصودةً أم غَيرَ مقصودةٍ .
الفرع الثاني : تعريف "اعتبار المآل" باعتباره
لقبا:
على الرغم من اعتبار الفقهاء
الأوائل لهذا الأصل في اجتهاداتهم ، واعتنائهم بإحكام نصوصه والكشف عن دلائله ، إلا أنهم
لم يعرفوه - حسب علمي - تعريفا محددا ، وإنما
عرفه المعاصرون بتعريفات كثيرة ومتنوعة ، أذكر منها : تعريف الريسوني – في الاجتهاد - قال:
"معناه
النظر في ما يمكن أن تؤول إليه الأفعال والتصرفات والتكاليف موضوع الاجتهاد
والإفتاء والتوجيه وإدخال ذلك في الحسبان عند الحكم والفتوى".
وهذا التعريف كغيره من التعريفات التي تيسر
لي الاطلاع عليها ، فهو لا يفي بالغرض المطلوب في الكشف عن حقيقة هذا الأصل ، بحيث
أن الناظر في هذه التعريف لا يجد بيانا لكفية تطبيق هذا الأصل في عملية استنباط
الحكم ، و لا قيودا محددة لضابطه وشروط إعماله
وقد بدي لي أن أعرفه تعريفا ميسرا
يضبط محترزاته بدقة ، ويعبر عن مضمونه بألفاظ موجزة ، وهو :
"جعل الحكم مطابقا لقصد الشارع ؛ بمنع الإفعال المشروعة المؤدية إلى مفسدة غالبة قطعا أو ظنا
، والإذن في الأفعال الممنوعة المؤدية إلى مصلحة غالبة قطعا أو ظنا".
شرح التعريف:
(جعل الحكم مطابقا لقصد الشارع) أعني بذلك أن الغاية من
الالتفات إلى هذا الأصل ، هي : أن يتحقق التطابق
بين الحكم الذي يبينه المفتي من جهة ، وبين قصد الشارع في وضع الشريعة على
اعتبار مصلحة العباد من جهة
ثانية ، وذلك أن الفعل قد يكون مشروعا لتحقيق مصلحة ولكن له مآل إلى غير ما شُرع له ، أي أنه مؤدي إلى مفسدة راجحة ، فيكون بذلك مناقضا لمقصود الشرع ، فيتعين على المفتي أن يرده إلى اعتداله ، ليتوافق مع مقصود الشرع ، وذلك معنى : (بمنع الإفعال المشروعة المؤدية إلى مفسدة غالبة ).
ومن أمثلته : نكاح الكتابيات ، فهو مشروع بالنص القرآني ، وقد كرهه المالكية، والشافعية ، والحنابلة، وقصر الحنفية الكراهة على الحربيات منهن فقط . وذلك لما يترتب عنه من مآلات محظورة ، ذكر أهل العلم منها الكثير ، وأذكر منها مآلا واحدا ، وهو :
تعرض الفتيات المسلمات للعنوسة ، وقد سئل الحسن البصري في زمانه ، أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات[11].
وهذه الأمور التي بنى عليها العلماء حكم الكراهة، قد كانت احتمالية في عصرهم، أما اليوم فقد صارت أمورا واقعية ؛ حيث كثر المسلمات بشكل لا يسمح بالتزوج من غيرهن ، مما يجعل الإفتاء بمنع التزوج بالكتابيات في العصر الحاضر أقرب إلى روح الشريعة ومقاصد.
ومن ناحية أخرى قد يكون الفعل ممنوعا (منهيا عنه) لدرء مفسدة ، ولكننا إذا التزمنا بمنعه ، وأطلقنا القول بعدم مشروعيته لأدى ذلك إلى تفويت مصلحة راجحة ، وهنا يتعين على المفتي أن يأذن في ذلك الفعل الممنوع أي يقول بجوازه ؛ ليتوافق مع قصد الشارع ، المتمثل في تحصيل المصالح الغالبة ، وذلك معنى :(الإذن في الأفعال الممنوعة المؤدية إلى مصلحة غالبة ).
ومثال ذلك : الكذب: فعل محرم شرعا، إلا أنه قد يباح أو يستحب أو يجب بالنظر إلى مآله وحسب حجم المصلحة المجتبلة به أو المفسدة المستدفعة به ، ومن حالات إباحته أن يكذب الزوج على زوجته لأجل إصلاحها وحسن معاشرتها، أويكذب الرجل للإصلاح بين الناس ، يقول سلطان العلماء "وهو – هنا- أولى بالجواز لعموم مصلحته".
وقد يجب الكذب كما لو اختبأ عنده رجل معصوم هارب من ظالم يريد قتله أو قطع يده، أو اختبأت عنده امرأة يراد الاعتداء عليها ، وكذلك لو كانت عنده وديعة وأتى ظالم يريد أخذها. ففي كل ذلك يجب عليه الكذب ، وهو– هنا- أفضل من الصدق لتعلقه بمآل راجح على مفسدة الكذب ، وهو حفظ النفس والعضو والعرض والوديعة.
ومعنى (غالبة) في التعريف أي شترط لهذه العملية الاجتهادية أن تكون مفسدة مآل الفعل الممنوع راجحة على مصلحة الأصل ، وأن تكون مصلحة مآل الفعل المأذون فيه راجحة على مفسدة الأصل أيضا.
ومعنى (قطعا أو ظنا). أي يشترط كذلك أن تكون نتيجة الفعل - المتوقعة - مقطوعا أو مظنونا ظنا راجحا بحصولها ؛ إذ لا عبرة بما كانت نتيجة حصوله مشكوكة أو موهومة.
الفرع الثالث : تصنيف أصل "اعتبار المآل"
"اعتبار المآل" أصل مقاصدي باعتباره مبينا للأساس العام الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية ، المتمثل في النظر إلى ما تؤول إليه الأفعال من مصالح مجتلبة أو مفاسد مستدرئة ، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم.
ولكن يمكن - والله أعلم - اعبتاره أصلا أصوليا أيضا ، باعتباره ركنا أساسيا في عملية الاستنباط و الاجتهاد ، إذ لا يصح تطبيق القواعد الأصولية المتعلقة بالأوامر والنواهي ، دون النظر إلى مآلاتها وما ينجم عنه ، وقد نبه الإمـام الشـاطبي ـ رحمه الله ـ على ضرورة
الالتفات إلى المعاني والحكم في عملية الاستنباط والاجتهاد، حيث قال:"لا بد من الالتفات إلى معاني الأمر لا إلى مجرده"[الموافقات2 /149].
ثم أننا حينما نعرف القاعدة الأصولية ، نقول هي : "قضية كلية يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية"، وهذا التعريف ينطبق على أصل : "اعتبار آلمآل" ، وإلا فبم توصل الأئمة الأربعة إلى استنباط حكم الكراهة بالنسبة لنكاح الكتابيات ...
المطلب الثاني : حجية
اعتبار المآل
|
اعتبار المآل أصل شرعي معتبر
باتفاق أهل العلم ، فيتعين على المجتهد
مراعاته والنظر إليه عند انتزاعه للأحكام الشرعية
من أدلتها التفصيلية .
"النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً ، كانت الأفعال موافقة أو
مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين
بالإقدام أو بالإحجام ؛ إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل....".
ولقد ثبت يقينا – من خلال استقراء وتتبع
موارد الأحكام - أن إرادة الشارع الحكيم اتجهت إلى اعتبار هذا الأصل العظيم ، ودلائل
ذلك لا حصر لها ، منها :
1-
قوله ـ سبحانه و تعالى ـ
: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا
الله عدوا بغير علم" [الأنعام: 108].
وجه الاستدلال : أن سب آلهة المشركين حمية
لله ، و إهانة للأصنام ، وتوهينا لشأنها ، أمر مباح في الأصل بل هو عبادة ،
ولكن الشارع الحكيم منعه ، لكونه وسيلة إلى سبهم لله جل جلاله ، ومفسدة مسبته
تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم ،
فكان هذا كالتنبيه بل هو كالتصريح على منع الوسائل المؤدية إلى الفساد ، وفيه – أيضا - إيماء للمجتهدين بأن ينحوا
هذا النحو، ويقتفوا أثر هذا المسلك التشريعي في اجتهاداتهم الفقهية.
2-
حديث عائشة – رضي الله
عنها- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لها: " لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما
أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به
أساس إبراهيم ".
وجه الاستلال: أن بناء البيت العتيق على أسس إبراهيم – عليه السلام- مصلحة
شرعية، وقد تركها النبي – صلى الله عليه وسلم- لما قد يترتب عليها من مفسدة
عظيمة متوقعة ، وهي نفور الناس عن الإسلام ، أو ردتهم بسبب ذلك الفعل، لأن
الإيمان لما يرسخ في قلوبهم بعد ، وفي ذلك دليل على اعتبار أصل النظر إلى
مآلات الأفعال.
المطلب الثالث : القواعد
المتفرعة عن اعتبار المآل
|
عندنا في المذهب المالكي أربعة أصول
اجتهادية ، كلها متفرعة عن أصل اعتبار المآل ، كما ذكر الإمام الشاطبي في
موافقاته ، وهي:
1-
أصل
ســــــد الذرائع:
وهو منع الوسائل التي ظاهرها المشروعية وتؤول الى مآل ممنوع غالبا
أو كثيرا ، كما في منع سب آلهة المشركين ، وقد تقدم . ومن هذا المنطلق كره مالك إتباع رمضان بست من شوال ، حتى لا يعتقد
الناس وجوبها مع طول الزمان ، كما كره أن تصام الأيام البيض لنفس العلة
باطراد، وهي إيجاب ما لم يوجبه الشرع ، سدا لذريعة الزيادة في الدين ، لاسيما
عند العوام ، فإن كان الشخص عالما بدين الله جاز له صيامها مع نفسه ؛ إذ الحكم يدور مع علته عدما ووجودا.
فمالك رحمه الله قد صان بهذه الفتيا النص الشرعي من أن يؤول إلى مآل مناقض لمقصود الشرع ، وهو ما فعله الخليفتان من قبله أبوبكر وعمر رضي الله عنهما فقد روي أنهما كان لا يضحيان عن أهلهما لنفس العلة.
2-
أصل
الاستحســــــان:
وهو متعلق برتبة الحاجيات ، ومبدأ رفع الحرج ودرء المشقة وجلب التيسير ، وحقيقته : ترك الدليل العام - من عموم
لفظي أو قياس متعدي - في بعض مقتضياته درءا لمفاسد المشقة ورفعا للحرج عن
الناس ، كما في مشروعية بيع السلم . وخيار
التعين على خلاف الأصل ، وكأجرة الحمام ، فالأصل العام عدم جوازها لأنها من
جملة بيع المجهول المنهي عنه ، لأن مدة البقاء في الحمام مجهولة وكمية استهلاك
الماء مجهولة أيضا ، ولكن جاز ذلك استحسانا – على خلاف الأصل - نظرا لحاجة
الناس إليه.
3-
أصل مراعاة
الخلاف:
وهو مسلك وعر ، وقد استشكله كبار الفقهاء ، وعرفه ابن
عرفة بقوله :"إعمال دليل( المخالف) في لازم مدلوله
الذي أعمل في نقيضه دليل آخر"[حدود ابن عرفة177]
، ويمثلون له بنكاح الشغار، و هو باطل ويفســـخ
قبل الدخول وبعده
عند المالكية ، ولكن يترتب
عليه أثره رعيا للخلاف.
شرح التعريف
في هذا التعريف الذي ذكره ابن عرفة عندنا: (دليل ومدلول ولازم مدلول).
لا نتكلم عن الدليل فلا اشكال فيه، وإنما
نتكلم عن مدلول الدليل ولازم مدلوله :
أولا : مدلول دليل المخالف :
"وهو عدم فسخ نكاح الشغار بعد
الدخول وثبوته بمهر المثل" فهذا لا يُعمِل فيه المالكية دليل مخالفهم بل يُعمِلون
فيه دليلَهم الذي يقتضي فسخ نكاح الشغار قبل الدخول وبعده ، وهو ما عناه ابن
عرفة بقـــوله : "... الذي أعمل في نقيضه دليل آخر".
يعني الذي اعمل في نقيض مدلوله دليل اخر ، و نقيض مدلول دليل المخالف هو فسخ نكاح الشغار بعد الدخول.
ثانيا : لازم مدلول دليل المخالف :
" وهو أن يترتب على نكاح الشغار أثره كالإرث والصداق وحرمة المصاهرة وفسخه بطلاق" وهذا هو الذي يُعمِل فيه المالكية دليل
مخالفهم ، وهو ما عناه ابنعرفة بقوله :" إعمال دليلالمخالف في لازم مدلوله .."
ولطالما أشكل علي هذا الأصل ، لا من حيث فهمه ، بل من حيث إدراك مراميه ،
وذلك أن مرعاة الخلاف متفرع عن أصل عتبار المآل ، فغايته الأساسية هي درء المفاسد عن المكلفين ،
إلا أن هذه الغاية لا تتحقق كاملة بإعمال دليل المخالف في لازم مدلوله ،فترتب اثر النكاح كما تقدم فيه درء مفسدة جزئية ،
لكن فسخه بعد الدخول يعد مفسدة كبيرة لكل من الزوجين ، فأين درء المفسدة عن المكلف
بإعمال هذا الأصل؟ ولهذا قلت كان ينبغي أن يعمل دليل المخالف في مدلوله ، المقتضي
عدم فسخ نكاح الشغار بعد الدخول ، لتتحقق غاية درء المفسدة عن المكلف كاملة ، ويكون التعريف المختار – حيئذ – لهذا الأصل على النحو
الآتي :
"الأخذ
بالدليل المرجوح لرفع المفسدة الناشئة عن إعمال الدليل الراجح في الواقعة بعد
وقوعها" .
ولكن هذا الذي تصورته لا يتفق مع ما قرره فقهاء المالكية من أن حقيقة
هذا الأصل هي أن يُعمَل فيه دليلان:
أحدهـما : راجـــح ويُعمـــــــل في مدلوله : (المقتضي فسخ نكاح الشغار بعد الدخول)
وثانيهما : مرجوح ويُعمل في لازم مدلوله: (المقتضي ترتب أثر نكـــــاح الشغار عليه)
وبعد مزيد من التروي والتأمل وجدت حلا لهذا الإشكال القائم ، وجوابا لهذا الاعتراض المفترض ، وهو
أن مفسدة فسخ نكاح الشغار بعد الدخول
مغمورة في جنب مفاسد أخرى رابية عليها ، وذلك أن إطلاق القول بصحة نكاح الشغار بعد الدخول يؤول إلى مآلات محظورة ،
تتمثل في ما يلي:
1- ترك العمل بالدليل الراجح جملة وهو غير جائز.
2- التذرع بذلك إلى الطواطؤ على
إسقاط شـــــرط شــــــــرعي في النكاح وهو المهر.
3- التذرع بذلك أيضا إلى هدم حكم شرعي وهو نكاح الشغار المنصوص على
بطلانه.
وتلك كلها مفاسد غالبة عند مناظرتها بمفسدة فسخ نكاح الشغار بعد الدخــــــــول.
وبتجلية هذه الحقائق يتبين لنا ما يلي :
1- عبقرية فقهاء المذهب المالكي في صناعة الإفتاء.
2- فقههم الدقيق للموازنة بين المصالح والمفاســـد.
3- أن مراعاة الخلاف يعكس واقعية التشريع الإسلامي في جريانه على النهج
الوسط الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، والهادف إلى درء المفاسد الغالبة عن المكلفين.
4- أن مراعاة الخلاف حكمه الوجوب و لا يكون إلا بعد وقوع الواقعة ، وهذا
فيصل التمييز بينه وبين الخـــروج من الخلاف ، فالخروج من الخلاف مستحب ويكون قبل
الوقوع وبعده.
5- أن مراعاة الخلاف غير الإفتاء بعد الابتلاء ، لأن حقيقة هذا الأخير أنه عدول عن المذهب بالكلية إلى مذهب آخر ، كما
في مسألة الرضاع ، فعندنا – بل وعند الجمهور - يحصل التحريم بمطلق
الرضاع ، ودلينا هو الأصح والأرجح ، بناء على أن الشارع ربط الأحكام بالأوصاف
الظاهرة المنضبطة ، كما في ربط وجوب الغسل بالإيلاج لا بالإنزال، وربط إباحة الفطر
بالسفرلا بالمشقة ، وكذلك ينبغي ربط التحريم بمطلق الرضاع لا بجزئية اللبن ؛ لأن
جزئية اللبن المنتقلة من ثدي المرضع إلى جوف الصبي خفية مضطربة ، فلا يعلق الحكم
الشرعي بها ، لكن إذا تم الزواج بين المتراضعين وطال أمده وولدت الأولاد ، فإنا
نعدل عن الإفتاء بدليلنا الراجح إلى دليل الشافعي المرجوح ، القائل بأن التحريم لا
يثبت إلا بخمس رضعات مشبعات ؛ لأن المرجوح قد ترجح في الواقعة بعد وقوعها
، بالنظر إلى ما يؤول إليه الإفتاء بالراجح من فساد كبير .
وبهذا التوجيه لا
يكون من قبيل رعي الخلاف قول المالكية إذا طال أمد نكاح الشغار وولدت الأولاد ،
فإننا نعدل عن دليلنا الراجح إلى دليل مخالفنا المرجوح ، القائل بعدم فسخه بعد
الدخول ، وثبوته بصداق المثل ، فهذا إفتاء بعد الابتلاء لا رعيا للخلاف ؛ لأن رعي الخلاف يشترط فيه عدم
ترك الدليل الراجح بالكلية ، وهو لا ما يُتصور في هذه المسألة.
4-
أصل المنع
من الحيل:
وهو ترك مصلحة الأصل درءا
لمفسدة المآل ، التي تؤدي إلى إبطال الأحكام الشرعية وهدم مقاصدها ، أو هو
بتعبير
آخر منع الأفعال التي ظاهرها الجواز ولكنها تؤول إلى إبطال حكم شرعي ، كما في
مسألة الواهب ماله
عند رأس الحول فرارا من الزكاة ، فعلى الرغم من مشروعية
الهبة في الأصل ، إلا أننا نقول بمنعها – هاهنا
بالنظر إلى مآلها الممنوع
وهو التهرب من الزكاة.
فهذه الأصول الاجتهادية الأربعة ، وإن كانت مختلفة في مسالكها ، فهي متفقة في غايتها ،
المتمثلة أساسا في : (مراعاة اعبتار المآل ) طبعا وفق قواعد مقررة وضوابط
محددة عند أهل العلم.
المطلب الرابع : أثر
اعتبار المآل في الفتوى وحفظ
المرجعية الدينية
|
كل الأمثلة التي ذكرناها في المطالب
المتقدمة تعتبر آثارا فقهية لمراعاة
أصل اعبتار المآل ، ونظيف إلى ذلك في هذ المطلب ، بعض المسائل مما يقوم دليلا
على أثر هذا الأصل في الفتوى الشرعية ، وحفظ وحدة الأمة ومرجعيتها :
المسألة الأولى :
اتفق أهل العلم على أن الأصلَ عدمُ جواز إمامة المفضول عند وجود
الإمام الفاضل ، فإذا كانت تولية
الفاضل مفضية إلى مآل محظور ، كتبديد أمور الأمة وفصم وحدتها الوطنية ، جاز
حينئذ – وقد يجب – تولية المفضول على الرغم من وجود الفاضل ، ولقد حكى أبو
المعالي الجويني – في غِياث الأمم - الاتفاق على هذا ، فقال رحمه الله :"الغرض من نصب الإمام استصلاح الأمة ، فإذا كان في تقديم
الفاضل اختباطُها وفسادُها ، وفي تقديم المفضول ارتباطُها وسدادُها ، تعين
إيثار ما فيه صلاح الخيلقة باتفاق أهل الحقيقة".
فمقصود الجويني أن المقصد الشرعي من الإمامة هو صلاح الأمة فإذا كانت تولية
الفاضل مناقضة لهذا القصد وجب العدول عنها إلى ما يحقق قصد الشارع وهو تولية
المفضول ، ولهذا قلت في تعريف هذا الأصل بأنه : " جعل الحكم مطابقا
لقصد الشارع ".
المسألة الثانية:
أجمع أهل العلم – كما حكى إمام المالكية أبو عبد الله المازَري –
على جواز صلاة أتباع المذاهب خلف بعضهم ، على الرغم من اختلافهم في الكثير من
الفروع التي تخل بشروط صحة الصلاة ، ومن أمثلة ذلك أن المالكي إذا لم يعمم
رأسه بالمسح في الوضوء بطل وضوؤه وفسدت صلاته ، ولكنه يصلي خلف الشافعي الذي
يمسح بعض رأسه وصلاته صحيحة ، بل لا يجوز له أن يتخلف عن الصلاة خلفه ؛ حفظا لمصلحة وحدة الصف ، التي هي مطلب شرعي ، ومبنى هذه الفتيا على قاعدة مراعاة الخلاف
المتفرعة عن أصل اعتبار المآل ، وقد
بين سلطان العلماء تعليلها فقال:"الجماعة
للصلاة مطلوبة للشارع فلو قلنا بالامتناع عن الائتمام خلف من يخالف في المذهب
لأدى ذلك إلى تعطيل الجماعات ".
و من هنا ندرك مدى جهل من ملئوا الدنيا ضجيجا ؛ لأجل جزئيات هي أقل بكثير من
شروط صحة الصلاة ، كالقنوت في الصبح ورفع اليدين في الدعاء وجلسة الاستراحة
وقراءة القرآن جماعة ... غير مراعين
لما يترتب عن فتاويهم - التي هم ليسوا أهلا لها - من مآلات محظورة تخل بمرجعية الأمة ،
والأخلال بمرجعية الأمة مآله فصمُ وحدتها وتمزيق صفوفها.
المسألة الثالثة:
اتفق أهل العلم على أن تغيير المنكر فريضة شرعية ، ولكنه يمنع شرعا إذا غلب على الظن
افضاؤه إلى مآل محظور ، كأن يترتب عليه منكر مساوٍ له أو أكبر منه من باب أولى
.ومنه تحريم الخروج عن الحاكم المسلم وإن جار أو انحرف في حكمه ، وذلك بالنظر لما يؤدي إليه من مآلات محظورة [22].
المسألة الرابعة:
سبق وأن
بينا بأن الزواج بالكتبايات مباح بالنص وقد كرهه الأئمة الأربعة بالنظر إلى
مآله ، إلا أن العلامة ابن باديس رحمه
ذهب إلى أكثر من هذا ، فأفتى بحرمة زواج المسلم الجزائري بالفرنسية ، وبين بأن
ذلك قد يؤدي به إلى الارتداد عن الدين , وعلل ذلك بكون النتيجة التي يؤدي
إليها هذا الزواج ، هي الخروج عن حظيرة الإسلام ؛ لأن القانون الفرنسي يقضي
بأن أبناءه منها يتبعون جنسية أمهم في خروج نسله عن حظيرة الإسلام ، فإن كان
راضيا بذلك فهو مرتد عن الإسلام ... وإن كان غير راض لهم بذلك وإنما غلبته
شهوته على الزواج ، فهو آثم بجنايته عليهم ....
وفي ذات السياق أفتى رحمه الله
بردة المتجنس بالجنسية الفرنسية ؛ سدا لذريعة
الإدماج الرامية إلى طمس معالم الشخصية الوطنية ، وقال رحمه الله :"التجنس بجنسية غير
إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة الإسلامية (هو
تعليل باعتبار المآل) ومن رفض حكما واحدا
من أحكام الإسلام عدَّ مرتدا عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجماع.
فهذه الفتاوى - ونظائرها - مبناها على النظر في مآلات الأفعال ، فهي معللة بنتائجها ، ومقيدة بظروفها وزمانها ، وليست بمطردة في سائر
الأحوال ، و لقد كان لها أثر عظيم على صعيد الوحدة الوطنية ،
وحفظ الشخصية الجزائرية من الانصهار الذوبان.
و لعل مما ينبغي أن يبرز فيها
دور الفتوى في حفظ الوحدة الوطنية والمرجعية الدينية ، أن يقدر أرباب الفتوى
نتائج ومآلات الترويج للأفكار الغريبة
والدخيلة على ديننا وثقافتنا ووطننا ، وأن يكيفوها ويعطوها الأوصاف والأحكام
المناسبة ،
بالنظر إلى ما تؤول إليه من مخاطر جسيمة ، تهدد وحدتنا ومرجعيتنا وكياننا ، وأهمها ثلاث:
أ- الأفكار القائمة على أسس عقائدية تكفيرية أوتضليلية ، التي
مآلها - على الأرجح – استحلال دماء
المسلمين وأموالهم وأعراضهم .
ب- الأفكار
القائمة على أسس عقائدية طائفية ، التي مآلها – قطعا - تشويه تاريخ المسلمين وتشكيكهم
في تراثهم ، وهدمُ بنيانهم العقائدي والثقافي ، وفصم وحدتهم الوطنية.
ج- الأفكار القائمة على اتجاهات تغربية ، التي مآلها – حتما- التفكك
الأسري ، وتغريب المجتمع الجزائري ، وسلخ الأمة عن هوتها وأصالتها وقيمها بضرب مكوناتها الأساسية ، وهي الأسرة .
فإذا لم يبرز دور الفتيا - لا سيما المؤسساتية - في حماية مرجعية
الأمة ووحدتها من هذه الموبقات الثلاث التي أصبحت إلى الحقيقة أقرب منها إلى
الاحتمال فلم يبق للفتوى من أهمية و لا من أثر يذكر.
من خلال هذا العرض الموجز نستخلص نتائج
هامة ، منها:
1- (اعتبار المآل)
أصل شرعي مقاصدي أصولي معتبر شرعا وهو ركن أساسي في عملية الاستنباط.
2- أن المفتي لا تنحصر مهمته في إعطاء الحكم الشرعي ، بل عليه أن يقدر مآلات الأفعال وأن ينظــر إلى عواقب حكمه وفتواه .
3- أن إعمال هذا الأصل يتطلب فقها دقيقا للموازنة بين المصالح والمفاسد ، والإحاطة بمقاصدها
التشريعية ، والإلمام بقواعدها المقيدة لإطلاقها ، والضابطة لإعمالها ، والتي
تمكنه من الترجيح بين المتعارضات ،
وتقيه من الوقوع في الزلل عند بيانه للأحكام.
4- أن الغاية من الالتفات إلى هذا الأصل هي أن يتطابق الحكم الذي
يبينه المفتي مع قصد الشارع في وضع الشريعة ، المتمثل في درء المفاسد عن
المكلفين عاجلا وآجلا.
5- لقد كان للفتوى دورا عظيما في حفظ وحدة الأمة وثوابتها ومرجعيتها
، وينبغي أن يفعل هذا الدور في شكل مؤسساتي ليرتقي إلى مستوى مواجهة التحديات
المعاصرة.
6- أن الإفتاء بدون مؤهلات علمية معتبرة ومن غير دراية بالجوانب والظروف التي ينبغي أن تراعى في
ساحة الإفتاء جريمة أخطر بكثير من التطبيب من غير طبيب.
والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده
والسلام
|
السلام عليكم اخي الشيخ العيد المتحدث صديقك بايزيدي احمد ،شرفتنا ببحثك شرفك الله ،شيخي العزير اضافة اردت ان اتوج بها بحثك وهي ان مراعاة الخلاف قد تكون نتيجتها الاخد ببعض مقتضي دليل المخالف او بكله والفيصل في ذلك قوة المرجح التي رجحت دليل المخالف وعليه ماسميته الافتا بعد الابتلا هو صميم القاعدة لانه لولا قوة دليل المخالف لما اعتبر الحكم بل نحكم بالبطلان كما لم يقع وقبل الوقوع اما وانه قد وقع فلا بد من النظر الي المرجوح من غير المذهب لان صورة المسالة تغيرت بعد الوقوع فيصير المرجوح راجحا فيعمل به وعليه فالمالكي لم يخرج من مذهبه بمسلكه ذاك لانه انتقل الي قول المخالف بمسلك شرعي وهو القاعدة.م.الخلاف. وبمرجح يراه مشورعا في مذهبه ،فهو لا يزال بالقاعدة في فلك المذهب يسبح ولم يخرج الي المياه الاقليمية والله اعلم
ردحذفبارك الله فيك يا شيح أحمد وجزاك الله خير الجزاء ، وأسأل الله تعالى لك دوام الستر والعافية ، وتوجيهك للمسالة قوى جدا ، غير أنه لا ينطبق عليه تعريف المالكية لهذا الأصل ؛ المقتضي أن يعمل فيه دليلان ، راجح ومرجوح ، لهذا تصورت - حسب فهمي القاصر - أن ما يُعدل فيه عن دليل الماكي الى دليل مخالفه بالكلية لا يشمله مسمى مراعاة الخلاف ؟ لكن توجيهك اعطى تفسيرا أوسع لهذا الأصل ، وهو توجيه معتبر الى حد بعيد ، غير ان الإشكال يبقى قائما في تعريف المالكية ، حيث اشترطوا فيه ألا يترك الدليل بالكلية ؟ وهو ما لا يتصور فيما عبرتُ عنه بالفتيا بعد الابتلاء .
ردحذف