......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 25 ديسمبر 2014

مسالك النجاة " المسلك الأول: اليقظة"

مسالك النجاة
المسلك الأول: اليقظة
محامد
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن أهدانا الله، نحمده تعالى على  تفضله وإنعامه ولطفه وإحسانه، ونسأله المزيد من أفضاله، ونشهد أن لا إله ألا الله  وحده لا شريك له، شهادة نستعد به إلى يوم لقائه، يوم لا ينفع مال و لا بون إلا من أتى الله بقلب سليم، ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله ربه بالهدى وأنزل  عليه الكتاب بالحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبهم بإحسان إلى يوم الدين.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"

مقدمة مُسَـلَمٌ بها
أيها الإخوة الكرام : من المسلم به، أن كل العقلاء يحبون النجاة، وكلهم يتمنون الظفر بها، ولكن قليل منهم من يسلك مسالكها، كما قال الشاعر :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها        
 إن السفينة لا تجري على اليبس[1]
فالله قد أودع في الكون أسباباً وسنناً، فلكل شيء سب، والنجاة من المهالك – أيضا – لها أسبابها ومسالكها،  ومسالك النجاة هي الطرق الموصلة إليها، وهي كثيرة ذكرها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، ولكن بتعبيرات أخرى.
أول مسالك النجاة : اليقظة
وحقيقتها: أن ينتبه القلب من غفلته ؛ إذ الغفلة داء عضال ، متى هيمن على النفس أدخلها في سبات نوم عميق، فلا يصحو صاحبه إلا بعد أن يرد القبور. 
"وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ" (الأنبياء97)
حينئذ يقول : 
يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ في جنب الله"(الزمر56)
أو يقـــــول : "يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَـيَاتِي(الفجر24)
أو يقـــــول: "يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِــــتَابِيَهْ"(الحاقة25) 
ولكن كل هذه التحسرات لا تفيد ، فقد فات الأوان ، ولات حين مندم.                        
 لهذا كان لزاما على من يرجو النجاة أن يدرأ عنه الغفلة باليقظة والانتباه ، قبل فوت الأوان... فإنه متى انتبه توجه إلى الله، واستعد للقائه ، وتجهز للقدوم عليه بأحسن الأحوال ...
أركان اليقظة
وهي الأجزاء التي تتألف منها اليقظة ، وهـي: 
أولا: ملاحظة النعم.
فأول أركان اليقظة ملاحظتك لنعم الله عليك ، فما أعظمها ، وما أكثرها ..." وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا"(ابراهيم34)
1- إيجادك في صورة إنسان نعمة جليلة ، ولو شاء ربك لجعلك في صورة كلب أو خنزير  "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ" (فاطر8).
2- الهواء الذي تستنشقه نعمة جليلة ، ولو شاء ربك لحبسه عنك ....
3- المواهب التي زودك الله بها [ من سمع وبصر وفؤاد، والدماء التي تسري في عروقك،  ونبضات قلبك ...] كل ذلك من  جلائل النعم ، ولو شاء الله لسلبها منك ... 
وعدد ما شئت من النعم الظاهرة والباطنة ... فإنك إذا شاهدت عظمتها وكثرتها أدركت يقينا تقصيرك في واجبها ، وهــــو :                [شكر المنعم تبارك وتعالى].
وهذا الإدراك يدفعك إلى محبة المنعم وإجلاله ، واللهج بذكره والاعتراف بآلائه ، والإقرار بجنايتك ونقائصك ،                    فتتحقق – حالا ومقالا – بما ورد في مناجاة الحبيب المصطفى صلى الله عله وسلم : "للَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ، وَأَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ"[صحيح البخاري حديث رقم:5964].

  ثانيا: ملاحظة تناقص الأيام.
وثاني  أركان  اليقظة ملاحظة تناقص الأيام ، فكل يوم يمضي من حياتك بقربك نحو نهاية حياتك الدنيوية ، وبداية حياة الأخروية ، فإذ عرفت ذلك اندفعت إلى تعمير باقي أيامك بصالح الأعمال ، فلا ترضى أنت تضيع أنفاسك في غير مرضات المنعم المتفضل تبارك وتعالى ، فكل نفس يخرج في غير مرضاته فهو نكسة وحسرة على صاحبه يوم القيامة."ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله فيها"[الطبراني في معجمه الكبير حديث رقم:182].
 ثالثا : ملاحظة الجناية:

 وثالث أركان اليقظة : ملاحظة الجناية ، وذلك بأن ينظر إلى ما سلف منه من الإساءة ، ويعلم أنه على خطر عظيم  فيها ، وأنه مشرف على الهلاك بالمؤاخذة ، وقد ذم الله تعالى في كتابه من نسي ما تقدم يداه فقال: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ"[الكهف :57]. فإذا لاحظ جنايته شمر لاستدراك ما تقدم بالعلم والعمل ، وتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم ..
بماذا تتحقق اليقظة
هناك ثلاثة أمور هامة لا تتحقق اليقظة و لا تستقيم إلا بها ، ويتعذر على السالك الانتباه بدونها :
أولا: سماع العلم النافع.
فهو أعظم سبيل لتحصيل اليقظة وطرد داء الغفلة:
فلولا العلمُ ما سَعِدَتْ نفوسٌ               ولا عُرِفَ الحلالُ ولا الحرامُ
فبالعلمِ النجاةُ مِنَ المخـازِي                وبالجهلِ المذلَّةُ والرُّغَــــامْ
ومن علامات الخذلان إعراضك عن طلب العلـم ، ومن أسباب الهلاك التكبر عن العلم وأهـــله ، ومن علامات التوفيق إقبالك على مجالس العلم ، "مَنْ يُردِ اللهُ به خيراً يُفَقّهْهُ في الدينِ" [أخرجَهُ البخاريُّ في صحيحه. كتاب العلم3.باب18 رقم13].                      فما أعظمها من نعمة حينما تجلس مجلسا تتعلم فيه العلم ، فيحي قلبك وتستيقظ من غفلتك فيشتد عزمك على المضي في مسلك النجاة:
العلــــــمُ فيهِ حيــــاةٌ للقلـــوبِ كمــا                  تحيا البلادُ إذا ما مسَّها المطــرُ
والعلمُ يجلو العمَى عَنْ قلبِ صاحِبه                  كما يُجْلِي سوادَ الظُّلمةِ القمـــرُ
ثانيا: صحبة الصالحين.
فمما يبعث على اليقظة : مجالسة الصالحين [ وأصلح الصالحين أهل العلم ] فحضور مجالسهم وسماع دروسهم   وتوجيهاتهم مما يوقظ القلب ؛ لذلك كانت محبتهم من وسائل التقرب إلى الله تعالى ، كما قال الشافعي رحمه الله تعالى :
أحب الصالحين ولست منهــم          لعلي أن أنال بهم شفاعــــة
وأكره من تجارته المعاصــي          ولو كنا سواءً في البضاعة
فيرد عليه الإمام أحمد قائلا:
تحب الصالحين وأنت منهـــم          ومنكم يرتجى نيل الشفاعة
وتكره من تجارته المعاصــي          حماك الله من تلك البضاعة
ثالثا: فطام النفس.
وهو تعويدها على ترك عاداتها ومألوفاتها ؛ فإن النفس إذا تركت على هواها ، فستورد صاحبها أسوأ المهالك ، وما منع الكافرين من إجابة الرسل إلا تشبثهم بالعوائد التي ورثوها عن أسلافهم :"وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ " (الزخرف23)
وهيهات هيهات أن تحصل اليقظة لمن ترك نفسه مسترسلة وفق رغباتها ، قال البصيري رحمه الله تعالى :
والنفسُ كالطفل إن تهملْه شبَّ على          حُبِّ الرضــاعِ وإن تفطمْه ينفطــــمِ
فكم تزين النفس لصاحبها من الملذات وهو لا يعلم أن فيها مصرعه وهلاكه:
كم حسنت لـــذةً للمــــرءِ قاتــــــلةً            من حيث لم يدرِ أن السم في الدسم
الخاتمة
أيها الإخوة الكرام: هذا هو أول مسلك من مسالك النجاة ، وهو مسلك اليقظة الذي غاب عن كثير من الجن والإنس ، فما استيقظوا حتى وجدوا أنفسهم في الجحيم جاثمين:
"وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ "(الأعراف179).
أما آن لنا أن نستيقظ من غفلتنا وننتبه من رقادنا ؟ ؟ قبل أن يقول الغافلون: "...رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ"(السجدة12).
فصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



خطبة الجمعة بمسجد مالك بن أنس / التلاغمة / ميلة / الجزائر في : 4 ربيع الأول 1436هــ = 26/12/2014م




[1] هذا البيت  لأبي العتاهية ، فيروى أنه دخل على هارون الرشيد فقال له هارون : "عظني بأبيات شعر وأوجز " فأنشده هذه الأبيات :
لا تأمن الموت في طرف ولا نفـس         ولو تمنعت بالحجاب والحـــرس
واعلــم بأن سهام الموت قاصـــدة          لكـــل مــــدرع مــنا ومـتــــرس
ترجو النجاة ولم تسلك مســــالكها         إن السفينة لا تجري على اليبس
فخر هارون الرشيد مغشيا عليه.

هناك 4 تعليقات:

  1. نشكر الشيخ على عودته للكتابة محمد من تلمسان

    ردحذف
  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    نفع الله بكم البلاد والعباد
    اريد من سيادتكم معرفة كيف لى ان اجد كتاب ( المسالك فى النجاه من المهالك)

    ردحذف
  3. مسالك النجاة هي الطرق الموصلة إليها ، وهي كثيرة ذكرها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين ولكن بتعبيرات أخرى.لا يوجد كتاب بهذا بعنوان مسالك النجاة

    ردحذف
  4. جزاك الله خيرا شيخنا الكريم

    ردحذف