......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الاثنين، 8 يوليو 2013

روضة مراتب الصيام



أيها الإخوة الكرام :  مرحبا بكم في روضة من رياض الجِنان ، طبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا ، وفي مجلس اليوم سنتطرق – بحول الله وتوفيقه – إلى بيان مراتب الصوم ، وهي كما بينها أهل العلم  ثلاث مراتب  :
صوم العموم  . وصوم الخصوص.  وصوم خصوص الخصوص.
أولا : صوم العموم
والمراد به الإمساك عن شهوتي البطن والفرج  من أكل وشرب وجماع ، من طلوع الفجر إلى غروبها ، وهذا هو المعهود في أحوال كثير من الناس ، لكنه ليس هو الصيام الذي يقصده الشرع .
ثانيا : صوم الخصوص
وهو بالإضافة إلى الإمساك عن شهوتي البطن والفرج ، أن تصوم بقية جوارحه عن الآثام ، فيصوم سمعه وبصره ، ويده ورجله ، وأن يصوم لسانه ، وهذا هو الصيام الذي يريده الشارع ويدعو إليه ويرغب فيه ، وفيما يلي تفصيل ذلك بإيجاز:
1- صوم السمع : و يكون بعدم الإصغاء إلى ما نُهِيَ عنه شرعا ، كالتجُّسس على الناس ، وكالاستماع إلى الموسيقى والغناء ، والكف عن الاستماع إلى سائر الأقوال المحرمة كالغِيبة والنميمة ونحوهما ، و في الأثر : " المغتاب والمستمع شريكان في الإثم"( غريب ذكره أبو حامد في الإحياء ) وأخرج الطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة وعن الاستماع إلى الغيبة ".
 2- صوم البصر:  و وهو أن يكف بصره عن النظر إلى المحرمات شرعا ، كالنظر إلى محاسن النساء ، والنظر إلى الأفلام والمسلسلات المشتملة على العري والخلاعة ، وأن يكف بصره كذلك عن النظر إلى العورات وعن كل ما يشغل عن ذكر الله تعالى ،  فالمطلوب من الصائم أن يحفظ عينه عن سائر المحرمات ، فالعين نعمة عظيمة ينبغي توظيفه فيما يرضي الله تعالى ، وإلا استحالت إلى نقمة والعياذ بالله ، فالله تعالى إنما خلق العين للإنسان ليهتدي بها في الظلمات ، ويستعين بها على قضاء الحاجات ، وينظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسماوات ، وما أو دع الله فيهما  من الآيات الباهرات، وقد طلب الشارع الحكيم من عباده المؤمنين أن يكفوا أبصارهم عن المحرمات ، فقال الله تعالى : " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ( النور30 ) ، وهو أمر مطلوب على الدوام ويزداد تأكيده في رمضان ؛ لإخلاله بحقيقة الصيام ، قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم:  " ..لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَِإنَّ لَكَ الُأولَى وَلَيْستْ لَكَ الآخِرَةُ " ( رواه أبو داوود ) . و قال أيضا عليه الصلاة والسلام : " إيَّاكم والنظرة، فإنها تزرع في القلب شهوة"( أخرجه البيهقي ) ، وُسئِلَ الجنيْد رضي الله عنه : " بِمَ يُستعان على غِّض البصر؟ فقال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره".
3- صوم اليد:  وهو حَبْسُها عن البطش والاعتداء على الغير والتطاول على عليهم بالضرب والأذى ، وكفها عن اقتراف المحرمات  من كَسب خبيث أو تطفيف في الكَيْل والميزان ، أو سرقة أو أخذ رشوة ، أو لعب ميسر، أو كتابة ما فيه إثم وغير ذلك .... وبعض الناس يعكس هذا الأمر تماما في رمضان ، فانظروا إلى هذه الشجارات التي نسمع عنها كل يوم ، والتي قد وصل بعضها إلى حد الطعن بالسكين والعياذ بالله ، فهذه أمور خطيرة وهي من كبائر الذنوب ، وتتنافى مع ما ينبغي أن يكون عليه المسلم في أحواله العادية فكيف يقدم عليها وهو صائم !!! أولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ( متفق عليه ). وبعض الناس يشتد به الغضب في رمضان حتى يفقد صوابه ، حدث مرة وأن تشاجر شخصان أمامي ، فقال أحدهم : اللهم إني صائم ، فرد عليه الآخر قائلا : اللهم إني لست صائما !! إن الصيام فرض ليهذب النفس ويقلل من حدتها ، لكن يبدو أن أغلب الناس ضعُف عندهم معنى الصوم ، أو غاب عنهم مفهومه الحقيقي ، فأصبحوا ينظرون إلى الصيام كإحدى العادات الاجتماعية التي تعَوَّدوا استقبالها وإحياءها كل سنة، دون أن يتأملوا في مقاصده وأبعاده، ولا أن يتفكروا في أسراره، ولا أن تظهرَ عليهم فوائده وآدابه، وبالتالي غاب تأثيره في حياتهم وواقعهم وفي حالهم مع ربهم عز وجل !!
لقد قلت لهؤلاء وأمثالهم - مرارا وتكرارا - : من كان يغلب على ظنه أنه قد ينزل إلى هذا المنزلق الخطير بسبب الصيام فليعتزل الناس في الأوقات التي  يتغير فيها مزاجه ، وهذا خير علاج له ، وقد قعد علماؤنا قاعدة هامة ، وهي قاعدة : (سد الذرائع) ومعناها : منع ما يجوز ليلا يؤدي إلى ما لا يجوز ، أو كما يقال : الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح .
4 – صوم الرجل : وهو ألا يسعى الصائم إلى ما فيه مفسدة ، كالمشي في وشاية بُمسلِم أو إثارة فتنة بين الناس ، أو السعي  إلى أماكن تتعاطى فيها المحظورات ، كأماكن اللهو والقمار ، ومجالس الغيبة وتتبع العثرات والعورات  ...
- 5 صوم اللسان : وهو أن يصوم عن فضول الكلام ، و عن الكذب والغِيبة والنميمة والفحش، و تعيير الناس والاستهزاء بهم ، و شهادة الزور، والخلف في المواعيد ، إذا وعد وهو يضمر خلاف ذلك ، واللسان شأنه خطير جدا أيها الإخوة ، فهو الذي يكب صاحبه على وجهه في النار يوم القيامة .
 و في الحديث: " الِّصيَامُ جُنَّةٌ ، فَإذَا كَانََ أحَدُكُمْ َصائِمًا فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ، فَِإنِ امْرُؤ قَاتَلَهُ أوْ شاتَمه فَلْيَقُلْ:ِ إنِّيَ صائِمٌ إنِّي صائِمٌ" (أخرجه مسلم). والمراد بالرَّفَث هنا: الكلام الفاحش، وقوله صلى الله عليه وسلم : (الَّصيامُ جُنَّةٌ)  أي وقاية من النار ، قال ابن العربي: " إنَّمَا كَانَ الَّصوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّار؛ لِأنَّهُ ِإمْساكٌ عَنْ الَّشهَوَاتِ ، وَالنَّارُ مُحفوفَةٌ بِالَّشهَوَاتِ" . وقال ابن حجر معقِّبًا على هذا : " فَا لحاصل َأنَّهُ إذَا كَفَّ نَفْسهُ عَنِ الَّشهَوَات في الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ ساتِرًا لَهُ مِنَ النَّار في الآْخِرَة ".  فمن لم يكف جوارحه عن الشهوات فأي جُنة وأي ثواب له في الصيام !!!  فإنما هو جائع وعطشان ،  قال صلى الله عليه و سلم:  " رُبَّ صائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صيَامِهِ إلَّا الجوْعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا الَّسهَرُ" (أخرجه النسائي في الكبرى ). وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : " مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشراَبَهُ "
وصدق القائل :
إذا لم يَكُــــن في الَّسمـعِ مني تصاممٌ    وفي مُقْلَتي غَّض وفي مَنطِقيَ صمْتُ 
فحَظِّي إذًا منَ صوْمِيَ الجوعُ والظَّما    وإن قُلْتُ إنيُ صمْتُ يومًا فَمَاُ صمْتُ

ثالثا : صوم خصوص الخصوص
وهو زيادة على ما سبق ذكره من الإمساك عن شهوتي البطن والفرج ، وكف الجوارح عن الآثام ، أن يصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّة ، والخواطر الشهوانية ، وكفه عما سوى الله بالكلية  فلا يتعلق قَلْبُه إلا بالله ، مع ممارسته لحياته العادية لتحقيق مراد الله في إعمار الكون ، وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين.
فعلينا أيها الإخوة الكرام أن ندرك هذه العاني ؛ ليلا يكن حظنا من الصيام الجوع والعطش والتعب ،  فالصيام ليس إمساكا عن الأكل و الشرب وحسب ، ولكنه بالإضافة إلى ذلك إمساك عن المفطرات المعنوية ، التي سبق بيانها ، وهو أمر يسير على من يسره الله تعالى ، لكنه يحتاج إلى مجاهدة و محاسبة للنفس ، ومخالفة للهوى ، وصدق القائل :
والنفس كالطفل إن تهمله شب علــى      حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فــــلا ترم بالمعاصي كسر شهـــوتها      إن الطعام يقوي شهــــوة النهم
أعاننا الله وإياكم على مجاهدة أهوائنا ، وإلى لقاء آخر ، إن شاء الله تعالى ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق