تمهيد
أيها المؤمنون : شهر رمضان هو
شهر التقوى ، قال الله تعالى: " يَا
أيّها الَّذِينَ آمنوا كتب عليكم الصيام كَمَا كتب عَلَى الَّذِينَ مِن قبلكم
لعلّكم تتقون " [البقرة: 183] . نادانا
ربنا سبحانه وتعالى بعنوان الإيمان: (يَا أيّها
الَّذِينَ آمنوا) ؛ لأن من كان مؤمنا يسهل عليه أن يستقبل أوامر ربه
بالقبول والامتثال ، ثم بين لنا جل ثناؤه ما كلفنا به ، وهو الصيام :( كتب عليكم
الصيام) أي فرض ، ثم بين لنا أن هذا التكليف إنما هو لمصلحة عائدة
إلينا ، وهي الارتقاء إلى درجة المتقين (لعلّكم تتقون) ، فإذا
ارتقينا إلى درجة المتقين حزنا خير الدنيا والآخرة .
حقيقة التقوى
أيها الإخوة الكرام : التقوى في اللغة : مأخوذة من كلمة وقاية ، وهي ما يحمي به
الإنسان نفسه ، فإذا أصابك الحر اتقيته بالهروب إلى الظل ، وإذا أصابك البرد
اتقيته بوسائل التدفئة ، وهكذا.......
وأما في الاصطلاح الشرعي : فالتقوى هي أن تجعل حاجزا بينك و بين ما
حرّم الله ، وقد عرفها أهل العلم بتعريفات عدة ، فقالوا : (هي امتثال المأمورات واجتناب
المنهيات)
، ومنهم من عرفها بقوله : (ألا يفقدك الله حيث أمرك وألا يجدك حيث نهاك ) ، وقد عرّفها الإمام علي بن
أبي طالب بقوله : (هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد
ليوم الرحيل)
سأل عمر بن الخطاب أبي بن كعب عن التقوى؟
فقال أبي : يا أمير المؤمنين : أما سلكت طريقا فيه شوك؟
قال : بلى،
قال : فماذا فعلت؟
فقال عمر : أشمر عن ساقي، وانظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة،
فقال أبي بن كعب : تلك هي التقوى.
نعم هو أخي الصائم : تلك هي حقيقة التقوى ، أن تشمر
ما استطعت لطاعة مولاك ، وتحترز من الوقوع في مواطن الزلل ؛ فتقي نفسك من الوقوع
في المحرمات التي توقعك في المهلكات
ثمار التقوى قي الدنيا والآخرة.
الآن وقد عرفنا حقيقة التقوى أيها
الإخوة الكرام ، فعلينا أن نعلم أنها مفتاح لكل الخيرات ، وأنها نجاة ووقاية من
جميع الشرور والويلات ، لذلك
أمرنا ربنا أن نتزود بها ، فقال تعالى : " وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التقوى " [البقرة: 197]
-
فإذا شئت رفع البلاء والنقم ، ودفع الكروب وجلب الأرزاق
والنعم فعليك بالتقوى :" ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من غير لا
يحتسب "[الطلاق:2].
- وإذا أردت أن يقبل عملك فعليك بالتقوى:
" إنما يتقبل
الله من المتقين" [المائدة:27].
- وإذا أردت السداد في الرأي والتوفيق في النظر فعليك
بالتقوى: "
إن تتقوا
الله يجعل لكم فرقانا" [الأنفال:29].
- وإذا أردت حسن العاقبة فعليك بالتقوى:
" إنه من يتق ويصبر فإن الله لا
يضيع أجر المحسنين "[يوسف:90].
- وإذا أردت النجاة في قبرك
فعليك بالتقوى ، دخل علي بن أبي طالب المقبرة يوما فقال: " يا أهل القبور ما الخبر عندكم: إن الخبر عندنا أن أموالكم
قد قسمت وأن بيوتكم قد سكنت وإن زوجاتكم قد زوجت، ثم بكى ثم قال: والله لو
استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى" .
- وإذا أردت النجاة يوم المحشر ويوم أن يستبق الناس الصراط ، فعليك
بالتقوى: " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا
جِثِيًّا" (مريم 72) وَالمعنى: أنه ما منكم من أحد إلا و سيرد
النار؛ فما من عبد إلا وسيمر على الصراط ، فمنهم من يمر كلمح البصر، و منهم من يمر
كالريح ، ومنهم من يمر يزحف على ركبتيه ، ومنهم من يُخطف فيلقى في النار، فسرعة
مرورك على الصراط تكون بحسب ما عندك من التقوى ، ( ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ
وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) ، فلا نجاة لنا من النار إلا بالتقوى ...
- وإذا أردت أن تكون من ورثة جنة النعيم فليك بالتقوى : " تِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً"[مريم:63]
-
وإذا أردت أن يحفظ الله لك أولادك من بعدك ، فليك
بالتقوى: "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم
ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " [النساء:9].
- وإذا أردت أن تكون من أكرم الناس وأشرفهم
فعليك بالتقوى: " إنّ أكرمكم عِنْدَ اللهِ أتقاكم
" [الحجرات:
13]
تلك هي ثمار التقوى في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال العلماء : ( التقوى جماع كل خير ) .
الخاتمة
ولما كان ربنا تبارك وتعالى لا يريد لنا إلا الخير في عاجلنا
وعاقبة أمرنا ، شرع لنا الصيام ؛ لتتهذب به نفوسنا ... وتسمو به أرواحنا ... و تصفو به أفئدتنا ... وتكبح به
شهواتنا ... وتنتظم به حياتنا ... وتصح به أجسامنا ... وتتحرك به مشاعرنا فنعطف على
الفقراء والمساكين ... ونتعلم من خلاله مراقبة رب العالمين ... وبذلك كله نرتقي
إلى هذه المرتبة السامية ، وهي تقوى الله عز وجل ، " يَا أيّها الَّذِينَ آمنوا كتب عليكم الصيام كَمَا كتب عَلَى
الَّذِينَ مِن قبلكم لعلّكم تتقون " ، واعلموا أيها الإخوة : أن الصيام
الذي يثمر التقوى ليس هو الإمساك عن الحلال من مأكولات ومشروبات ، ثم الإفطار على المحرمات
من لغو وغيبة ونميمة و سب وشتم وخوض في أعراض المسلمين والمسلمات ، فــــ ((من لم يدع قول الزور ( أي: الكذب) والعمل به فليس لله حاجة أن يدع
طعامه وشرابه))،
فمثل هذا لا يقبل منه صيامه فكيف يثمر
التقوى ؟ !! ولذلك فان من حِكَمِ الصيام : أن تتدرب النفس به على ترك ما تهوى وتشتهي ؛ امتثالا لأمر الله ، وإرضاءً له جل وعلا ، فإذا أمسك الصائم طوعا عما هو مباح له من الطيبات ؛ فإنه يسهل عليه بعدئذ أن يمسك عما هو ممنوع عليه من المحظورات ؛ فإن تحقق له ذلك كان من المتقين ، " .... لعلكم تتقون ".
فعلينا أدراك هذه المعاني لئلا تضيع
الحكمة التي شرع الصيام لتحقيقها ، نسأل الله التوفيق والسداد ،
وإلى لقاء آخر إن شاء الله ، وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق