......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 9 أكتوبر 2025

توقيف الحرب في فلسطين وبشائر الفتح المبين

الخطبة الأولى

الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر حزبه، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم، وتخلق بأخلاقهم، وجاهد جهادهم إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)

وبعد/ أيها الإخوة المؤمنون: لقد وعد الله عباده المؤمنين بالنصر والتمكين، فقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).    

وقال جل  جلاله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

وقال تبارك وتعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).

والله تعالى لا يخلف وعده، ولزوال الكون أهون عليه من أن لا يحقق وعده لعباده المؤمنين، ومن ظن خلاف ذلك فقد أساء الظن بربه.. ولكن اقتضت حكمته تعالى وجرت سنته قديما أن لا يتأتّى نصر وتمكين، إلا بعد ابتلاء وتمحيص، كما قال تبارك وتعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

ومن حِكَم هذا الابتلاء: تمييز المنافقين من المؤمنين، والكاذبين من الصادقين؛ لكيلا يبقى على الطريق إلا الصادقون، ولكيلا يشارك في معركة الشرف وعملية التمكين خائن أو خبيث، وذلك معنى قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

وها هي ملحمة طوفان الأقصى، بغزة العزة والإباء،  لم تدع اليوم خبيثا إلا فضحته، ولا منافقا إلا ميزته، سواء من الأنظمة العربية العميلة، أو من علماء البلاط الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، أو من الشعوب المسلمة البليدة التي فقدت الإحساس والضمير، أو من الفرق الدينية التي طالما خدعت الناس بأنها على نهج السلف، حتى غدت اليوم تصف المقاومة الباسلة بأنها من الخوارج، وأن الدعاء عليها أولى من الدعاء على اليهود.

فانفضح أمر أولائك جميعا، وانكشف زيفهم للعام والخاص، ولم يبق في الميدان إلا المؤمنون الصادقون، الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة.  

ولن يرحم التاريخ الخونة والمتخاذلين، فسيذكر التاريخ للأجيال أن مصر كان بها نهر النيل وغزة بجوارها ماتت عطشا، وسيذكر التاريخ أن السعودية والإمارات وغيرهما كانوا يملكون محيطات من النفط بينما لا وقود في غزة للمستشفيات ولا لسيارات الإسعاف، وسيذكر التاريخ أن المسلمين كانوا يملكون 50 مليون جندي، ولكنهم لم يرسلوا جنديا واحدا، ولم يوقفوا الإبادة في غزة،  وسيذكر التاريخ أن المسلمين انفقوا المليارات على حفلات الرقص والغناء وعلى كرة القدم، بينما كان أهل غزة في حاجة إلى رغيف خبز، وسيكتب التاريخ أن الشعوب المسلمة كانت تلوم الحكام، ولكنها لم تقاطع البيبسي والكوكاكولا وسائر المنتوجات الصهيونية، وسيذكر التاريخ أن الشعوب الأوربية والغربية خرجت إلى الشوارع تنديدا بمجازر غزة، بينما بقيت الشعوب المسلمة في بيوتها تشاهد الإبادات كما تشاهد المباريات، ثم تمضي لشانها وكأن الأمر لا يعنيها... نعم، سيذكر التاريخ ذلك وغيره من مظاهر الخذلان، ثم يوم القيامة سيحاسب الله الجميع، وسيجزي كل فاعل بما فعل.

واليوم وبعد مرور حولين كاملين على ملحمة غزة، هاهي الحرب تضع أوزارها، فتوقف العدوان،  وانكشفت الغمة عن إخواننا في غزة، بعد تضحيات جسام، وبعد معاناة وآلام، وبعد أن ألحق المجاهدون الأشاوس بالكيان الصهيوني خسائر فادحة، تمثلت في ما يلي:  

قتل أكثر من 3500  صهيوني

إعطاب أكثر من 40000 صهيوني

أسر أكثر من 400 صهيوني

فرار أكثر من مليون صهيوني خارج فلىىىطين بلا رجعة.

تدمير أكثر من 1700 دبابة ميركاڤا كليا أو جزئيا.

تدمير نحو 2000 مدرعة وناقلة جنود.

تدمير 180 جرافة عسكرية.

إسقاط أكثر من 200 مُسَيّرة صغيرة ومتوسطة.

إفراغ مخزون الصواريخ والقنابل والدخيرة لدى جيش الكيان.

التسبب في إفلاس أكثر من 90000 شركة.

انهيار الاقتصاد لدى الكيان لعامين متتاليين.

انهيار قطاعات حيوية في الكيان وعلى رأسها البناء والسياحة والتجارة الدولية.

إدانة الكيـان الصّـهيـونـي بجريمة الإبادة الجماعية ومتابعة قيادييه في محكمة الجنايات الدولية، ومنعهم من زيارة كثير من بلدان العالم.

عزل الكيان دوليا عزلة غير مسبوقة في تاريخه.

 قطع العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية مع الكيان من قبل 13  دولة.

وهذا بالإضافة إلى:

إلغاء صفقة القرن.     

وإحياء القضية الفلسطينية وارتفاع مستوى الوعي بها لدى أغلب المجتمعات الدولية.

وإن في ذلك لعبرة للعالمين، وإسوة لمن كان يريد  الحرية والانتصار، فها هي فئة قليلة مستضعفة في الأرض، محاصرة منذ عدد سنين، و ليس لها من السلاح إلا شيء يسير، وقد تحالف ضدها الكفر كله، وخذلها العرب والمسلمون قاطبة، ومع ذلك استطاعت أن تتحدى تحالف اللئام، وأن تقف في وجه أكبر قوة في العالم، وأن تعدل كفة  الميزان، وتقهر جبروت الكيان الصهيوني الغاصب، وترغمه على الرضوخ لمطالبها، و تلك نتيجة الصبر والإيمان، التي أخبرنا بها القرءان المجيد: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ).

وقال تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

فالله الذي قهر فرعون ونصر موسى ومن معه، وقهر النمرود ونجى إبراهيم،  وهزم قريشا يوم بدر، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ... هو وحده الذي رد العدوان عن إخواننا في غزة اليوم، وهو وحده من سينصر المستضعفين في كل زمان وكل مكان، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

ولابد للمؤمنين أن يكونوا حذرين على الدوام من مكائد اليهود وخداعهم، فهم قوم بهت، لا عهد لهم ولا ذمة، وقد قال الله تعالى في شانهم: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) فنسأل الله تعالى أن يتم على إخواننا في غزة نعمته ونصره وتأييده، وأن يحفظهم من غدر اليهود وسوء مكرهم.

وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، ثم الصلاة والسلام على النبي المصطفى، وآله وصحبه الشرفا، وبعد:

أيها الإخوة المؤمنون: سيقول السفهاء من بني جلدتنا، الذين يتكلمون بألسنتنا:  أن المقاومة رضخت لخطة ترامب بعد أن دمرت غزة!! ولا عجب!! فلقد قالها أسلافهم من قبل كما أخبرنا القرءان عن أنبائهم: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

والحقيقة أن خطة ترامب التي تم التوقيع عليها ليلة الخميس بشرم الشيخ، ما هي إلا استجابة لمطالب المقاومة الباسلة من أول يوم، وهي: توقيف الحرب، وتبادل الأسرى، وإنهاء الاحتلال وانسحابه من غزة، وإدخال المساعدات، تلك هي مطالب المقاومة من أول يوم، وهو ما تم التوقيع عليه فعلا، فصدق الملثم أبوعبيدة حينما كان يردد في خطاباته: (لن تأخذوا أسراكم إلا على طاولة المفاوضات، وبصفقة مبادلات، ولو فتشتم كل رمال غزة).

ولا ينبغي أن نكون أغبياء أو مغفلين، فإن أمريكا هي الكيان الصهيوني، والكيان الصهيوني هو أمريكا، ولو كان المجرم ترامب يعلم أن المعركة ستحسم لصالح الكيان الصهيوني ما كان ليتدخل لوضع خطة لتوقيف الحرب، فخطته ما هي إلا وسيلة لإنقاذ الكيان الصهيوني من المستنقع الذي وقع فيه.

وكأن الله جل وعلا أراد أن تتحقق مطالب المقاومة، وتأتي بوادر النصر، من قِبَل المجرم ترامب الراعي الرسمي للإبادة في غزة،  والذي ما فتئ يمد الكيان الصهيوني بالمال والسلاح لإجهاض المقاومة!!

وما أشبه هذه الاتفاق بصلح الحديبية، الذي صالح فيه النبي  صلى الله عليه وسلم المشركين، على الرجوع عن البيت الحرام، وأن من جاء من أهل مكة مسلما رده إليهم، ومن راح من المسلمين إليهم لا يردونه، وكان في ذلك إدخال ضيم على المسلمين، وإعطاء الدنية في الدين ظاهرا، ولذلك استشكله عمر رضي الله عنه، ولكن تبين فيما بعد أنه كان تمهيدا للفتح المبين.

واليوم قد رأينا أن خطة ترامب التي وافقت عليها المقاومة، كانت تشتمل هي الأخرى في بدايتها على نزع سلاح المقاومة، وعدم مشاركتها في حكم غزة مستقبلا... لكن المقاومة الباسلة كما أثبتت صلابتها وعبقريتها في ميدان القتال، فقد أثبتت حكمتها وحنكتها ودهاءها في ميدان السياسة والمفاوضات أيضا، فهي لم ترد برفض ذلك ولا قبوله، وكأنه لا وجود له، وأرجأت مناقشة تفاصيله لمحاورات وطنية، فلسطينة وإسلامية، ولمحت كم مرة إلى أن سلاح المقامة وجدت نتيجة للاحتلال، فإذا زال الاحتلال زال معه السلاح وسُلم للدولة الفلسطينية التي ستختار لحكم غزة وفلسطين كلها مستقبلا، وهذا أمر مشروع ومكفول في القوانين والمواثيق الدولية.

فلله در المقاومة الباسلة؛ فلقد قلبت موازين القوة، وأعطت للعالم دروسا عملية في الشجاعة والصمود، والتضحية والفداء، واستطاعت بفضل الله وتوفيقه أن تحول خطة ترامب إلى صالحها، حتى بات  قادة الكيان الصهيوني يصرخون، ويصرحون على مضض: بأن هذا الاتفاق تناول تنازلات مؤلمة لإسرائيل، وأننا نخشى من إفراغ السجون وإطلاق سراح الجيل القادم من قادة المقاومة, وأن كل ما وعد به النتن ياهو من استرجاع الرهائن بقوة السلاح قد ذهب أدراج الرياح...

وإننا لنأمل – انطلاقا من من ثقتنا بوعد الله - أن تكون هذه الاتفاقية تمهيدا لنصر عظيم وفتح مبين، وأن النتيجة التي لا مرية فيها أن الظلم لا يدوم، وأن هذا الكيان الغاشم لا محالة زائل، وقد يكون زواله مع حلول سنة 2027م ، كما تنبّأ بذلك مؤسس المقاومة، سيدنا الشهيد أحمد ياسين رحمه الله، وهو تنبؤ استوحاه واستلهمه من السنن الكونية المقررة في القرآن العظيم، المتعلقة بأعمار الأجيال.

فاللهم يا قوي يا متين، يا قريب يا مجيب، أدرك أهلنا في غزة بلطفك وعنايتك، واجعل اللهم كيد اليهود والمنافقين في نحورهم يَصْلَى به وريدُهم، اللهم شتت شملهم، وأفسد رأيهم، واهزم جيوشهم واجعل بأسهم بينهم...

اللهم أيد بنصرك وتوفيقك مجاهديهم، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وأصلح رأيهم وسدد رميهم، واجعل لهم الغلبة على اليهود الآثمين، وأتباعهم الفاجرين...

وأنزل اللهم رحماتك الصيبة، وصلواتك الطيبة، على أرواح شهدائهم، واجزه عن الإسلام وأمته خير الجزاء، وألحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا...

اللهم أمّنا في أوطاننا واحفظ جيوشنا، وأيّد بتوفيقك ولاةَ أمورِنا، واحفظهم من بطانة السوء التي تزين المنكر وتقبح لهم المعروف، ووفقهم إلى ما فيه خير العباد والبلاد..

اللهم زين ظواهرنا بالمجاهدة، وزين بواطننا بالمشاهدة، وأصلح أعمالنا وأقوالنا وسائر شؤوننا، وبلغ مقاصدنا وآمالنا، وفرج همومنا واقض ديوننا، ويسر معيشتنا وأرزاقنا، واشف مرضانا وعاف مبتلانا، واهد شبابنا، وأصلح أزواجنا وذرياتنا، واغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، واختم بالصالحات أعمالنا...

اللهم اجعل بلادنا بلاد العلم والدين، وراحة المحتاج والمسكين، واجعل لها بين الأمم صولة وحرمة ومَنَعَةً ودولة، واجعل من السر المصون عزها، ومن الستر الجميل حرزها، ومن كادنا فكده، ومن خدعنا فاجعه، ومن وشى بنا فلا تسعده..

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا ومولانا محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين، ومن والاه إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

السبت، 27 سبتمبر 2025

السيرة النبوية دستور شامل للحياة المرضية

 الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وآله وصحبه الشرفاء، المستكملين الشرفا..

وبعد/ فإن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تسعد به النفوس، وتنشرح له الصدور، وتستمتع في ظله الخواطر.. وتستنير في رحابه البصائر..

فهو حديث عن أعظم قمة في تاريخ البشرية على الاطلاق، ولو اجتمع البلغاء والفصحاء على أن يأتوا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفوا به غليل السامعين، أو يطفئوا به لوعة المحبين، فلن يسستطيعوا لذلك سبيلا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؛ فما من شرف يذكر، وما من كمال ينعت، إلا ولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر، والنصيب الأسمى.

فقد اصطفاه الله عز وجل من أفضل البشر، وأطهرهم معدنا، وأزكاهم نفسا، وأجملهم خَلْقا، وأعظهم خُلُقا، وأرقاهم أدبا، وجعله الله قدوة للإنسانية كلها، فقال تعالى: "لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ".

فهو صفوة منتقاة ، لا يُدانى في خلق ولا خلق كما قال سيدنا البصيري رحمه الله:

فاقَ النبيينَ في خلْقٍ وفي خُلُقٍ

            ولمْ يدانوهُ في علمٍ ولا كَرَمِ

وكلهمْ من رسول اللهِ ملتمسٌ

       غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ

ورحم الله الشيخ محمد الغزالي إذ يقول:

"لو أقيم سباق عام بين أصحاب المكارم والمواهب، لكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول السابقين فيه".

ولقد تفطن لهذه الحقيقة الدكتور الأمريكي مايكل هارت حينما صنف سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أول العظماء الخالدين في كتابه: [المائة الخالدون: أعظمهم محمد].

حيث جمع فيه مائة من العظماء عبر التاريخ، وصنفهم في القائمة حسب نجاحاتهم وإنجازاتهم، فوجد نفسه مضطرا من باب العدل والإنصاف أن يضع سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم في مقدمة العظماء الخالدين.

ونحن حينما ندرس سيرته صلى الله عليه وسلم فينبغي أن ننتبه الى حقيقة هامة، طالما كان ينبه اليها شيخنا البوطي رحمه الله، وهي أن دراسة سيرته صلّى الله عليه وسلم ليست من جملة الدراسات التاريخية، فليس شأنها كشأن الاطلاع على حياة الخلفاء أو العظماء أو الأمراء والسلاطين..

لأن سيرته العطرة صلّى الله عليه وسلم تعتبر دستورا جامعا وشاملا للمثل العليا وللحياة الفاضلة في كل شتى المجالات..

ففي سيرته صلى الله عليه وسلم نجد نماذج سامية:

-  للشاب المستقيم في سلوكه، الأمين مع قومه وأصحابه..

-  وللداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بدافع الرحمة والشفقة على المدعوين..

-  وللمعلم الناصح المربي للأجيال بسلوكه وروائع أدبه..

-  وللزوج المثالي في حسن معاشرته..

-  وللأب في حنو عاطفته..

-  وللتاجر الصداق الأمين في معاملاته.

-  وللأجير المتقن لعمله المؤدي لحقوقه..

-  وللقائد العسكري في شجاعته وعبقريته..

-  وللسياسي المحنَّك في صدق نضاله..

-  وللحاكم العادل في حسن سياسته ورعاية مصالح شعبه..

-  وللمصلح الاجتماعي في مهارة إصلاح أوضاع مجتمعه..

 - وللمسلم الجامع بين روحانية التعبد، وبين المعاشرة اللطيفة مع أهله، والمعاملة الحسنة مع أصحابه والناس أجمعين...

فسيرته صلى الله عليه وسلم تضع بين أيدينا منهجا كاملا متكاملا للمثل العليا وللحياة الفاضلة في شتى المجالات...

كما أنها طريق قوي لفهم القرآن العظيم؛ لأن تصرفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الزكية وشمائلة العلية كلها كانت ترجمة واقعية تطبيقية للمنهج القرآني بواسطة القدوة الحسنة في الواقع والوجود، ولهذا لما السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم  قالت: "كان خلقه القرآن" .

أي كان صلّى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض، والله تعالى حينما وصف خلق النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بذات الوصف الذي وصف الذي به ، فقال تعالى: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم". وقال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" .

وهذا يسمى في البلاغة بالتطابق أو التوافق والتماثل... ولم يذكر الله تعالى عبثا دون أن تكون له حكمة ودلالات، بل له تسفاد منه فوائد جمة، أهمها:

1-  أن من أراد أن يتعرف على حقيقة الشخصية المحمدية في أكمل صورها، فليقرأ القرآن بتأمل وإمعان .

3-  ومن أراد فهم القرآن فهما مترجما في واقع الحياة فليتأمل اخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم التي مدحه بها ربه: "وإنك لعلى خلق عظيم".

3- أن سر عظمته صلى الله عليه وسلم - التي غير بها وجه التاريخ في في فترة وجيزة- عائد إلى أمرين:

أولهما: ما أكرمه الله به من الوحي: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم".

والثاني: ما أكرمه الله بها من محاسن الأخلاق: "وإنك لعلى خلق عظيم".

ومن هنا ندرك سر ثناء الله عى نبيه بمحاسن أخلاقه...

فلم يمدحه ربه بغزارة علمه، مع أنه صلّى الله عليه وسلم سيد العارفين، وقد قال عن نفسه: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية".

كما لم يمدحه بكثرة عبادته مع أنه صلّى الله عليه وسلم أول العابدين، وقد كان يقيم الليل حتى تتورم قدماه..

وإنما مدحه بحسن خلقه، لأن الأخلاق الحسنة لها سر عجيب وتأثير قوي في النفوس، فهي تعتبر أقوى وسيلة لتبليغ دعوة الإسلام إلى العالمين؛ حيث تجعل الناس ينجذبون إلى صاحبها وينقادون إلى دعوته بدافع المحبة، والتأثر بمحاسن اخلاقه، والإعجاب بروائع أدبه..  

كما قال أحد علماء الغرب المنصفين وهو يصف سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلم:

"وعلى شفيه ابتسامة حلوة، وفي فيه نغمة جميلة، كانت تكفي وحدها لتسحر سامعها، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذبا ".

فانظروا إلى قوله : "كانت تكفي وحده.."...

فكيف إذا أضيف إليه ذلك الكم الهائل، من شمائله الزكية وأخلاقه العليه!؟ كصدقه وأمانته، وحيائه وعفته، وحلمه وسعة صدره، وتواضعه وشجاعته، وشهامته وأنفته، ونظافته وحسن طلعته.. وعددوا ما شئتم من مناقبه...

فَإِنَّ فَضْلَ رَسُولِ اللهِ لَيْسَ لَهُ

            حَدٌّ فَيُعْرِبُ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ

فهو كما قال واصفه:

بلغ العلى بكماله، كشف الدجى بجماله، حسنت جميع خصاله، فيا سامعين لمدحه صلوا عليه وآله..

فلقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون نبيه صلّى الله عليه وسلم متصفا بمحاسن الأخلاق منزها عن مساوئها؛ لتميل القلوب إليه، فيتحقق مقصود الرسالة، وذلك معنى قوله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك" .

فلو كان صلّى الله عليه وسلم - وحاشاه أن يكون – إنسانا سيء الخلق لنفر منه الناس من حوله، ولو نفر الناس من حوله لتعطل الغرض من البعثة ولفات المقصود من الرسالة، وهذا محال؛ لأنه يناقض إرادة الله، فوجب عقلا ان يكون صلّى الله عليه وسلم متسما بمحاسن الأخلاق منزها عن مساوئها.

ووجب على أمته من بعده أن تتخذ من اخلاقه صلى الله عليه وسلم دستورا تتمسك به، ومنهجا تسير عليه في حياتها، للتمكن من تبليغ رسالة الإسلام إلى العالمين، فنحن مسؤولون أمام الله تعالى عن تبليغ دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الشعوب الأوروبية والغربية وغيرها؛ لقوله تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي".

فنحن مأمورون بما أمر به صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوة الله على بصيرة..

ولكن للأسف ونقولها بكل مرارة نحن اليوم ننفر شعوب العالم ونصدها عن دين الله بسوء اخلاقنا؟

فأنى  لهذه الشعوب أن تسعد بدين محمد صلى الله عليه وسلم وتستنير بأنواره.. وهي ترانا على ما نحن عليه من انحطاط خلقي في شتى الميادين؟ من محسوبية في التعامل، وهضم للكفاءات.. وغش في الأعمال، ويقول في المعيشة.. وتعفن في البيئة والمحيط.. بل وفي العقلول.. ومن تفرق وتشرذم وتقاطع وتباغض وتحاسد تآمر وتكايد وتخاذل..

وعددوا ما شئتم من مساوئنا؛ فإن مساوئنا اليوم ليس لها حد فيعرب عنه ناطق بفم.

وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله توجيه رائع في تفسير قوله تعالى: "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا".

قال: "مما يجعلنا فتنة للذين كفروا: أن ننفرهم من الإسلام ونصدهم عنه بسوء أخلاقنا.. ".

وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن أحبكم إلي وأقربكم من مجلسا يوم القيامة احاسنكم أخلاقا". فبالمفهوم المخالف أن أبغظ الناس إليه صلى الله عليه وسلم وأبعدهم منه مجلسا يوم القيامة أسوأهم اخلاقا.

ولقد أدرك السادة الصوفية ما للأخلاق الحسنة من أهمية بالغة؛ فقالوا: أن التصوف كله يدور حول محول واحد، هو: "محور الأدب".

وخلاصة القول:

-        أن سيرته صلى الله عليه وسلم وما انطوت عليه من الشمائل تعتبر دستورا جامعا للحياة الفاضلة..

-    وأن عظمته صلى الله عليه وسلم ترجع إلى ما أكرمه الله به من القرآن ومحاسن الأخلاق، الموصوف كل منهما بالعظمة

-    وإذا أرادت أمته صلى الله عليه وسلم أن تسترجع مكانتها بين الأمم، وأن تكون أمة ينظر إليها بالمهابة والإعزاز، فما عليها إلا أن تتخذ منهما دستورا تتمسك به، وتعيشيه واقعا وحياة..  وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر وصايه: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنة نبيكم". فإن سنته صلى الله عليه وسلم بمفهومها العام: هي طريقته ومنهجه في الحياة، فتدخل فيها شمائله الزكية وأخلاقه العلية، وقد عرفها أهل الحديث تعريفا أشمل وادق من تعريف الفقهاء والأصوليين، فقالوا: " كل ما أُثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقية، قبل البعثة أو بعدها".  

فينبغي أن نتخذ من مناسبة مولده صلى الله عليه وسلم فرصة لمراجعة أنفسنا؛ والاصطلاح مع ربنا؛ وتجديد العهد مع نبينا صلى الله عليه وسلم فإن "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول ﷺ واتبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه". كما قال سيدنا الجنيد قدس الله سره.

ونسأل الله تعالى أن يردنا إليه ردا جميلا، وأن يوفقنا إلى اقتفاء أثر نبينا صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

 

الثلاثاء، 1 أبريل 2025

ذبح ذبيحة وقد ذهبت جوزتها كلها من جهة الجسد، فهل يجوز أكلها أم لا؟

 الجواب:

هذه الذبيحة تسمى [الْمُغَلْصَمَةُ]. وقد اختُلف فيها:

- والمعتمد والمشهور في المذهب المالكي أنها لا تؤكل وفاقا للشالفعي، إلا إذا بقي منها كحلقة الخاتم جهة الرأس فتؤكل[1].

- وذهبت طائفة من فقهاء المذهب منهم ابن وهب وابن عبد الحكم إلى جواز أكلها مطلقا وفاقا لأبي حنيفة[2].


- وفي نقل المواق عن الْبُرْزُلِيِّ:

"
أَنَّ الْفَتْوَى بِتُونِسَ مُنْذُ مِائَةِ عَامٍ بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُغَلْصَمَةِ وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي أَشْيَاخُنَا أَيْضًا"[3].

وحكى ابن ناجي في شرح الرسالة قولين آخرين في المذهب، فقال: "وقيل: يكره أكلها، حكاه ابن بشير ولم يسم قائله، وقيل: يأكلها الفقير دون الغني، قاله بعض القرويين وأفتى به ابن عبد السلام وليس بسديد"[4].

والله أعلم

2 - الفواكه الدواني للنفراوي 1 / 384

- 2 شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة 1 / 372

- 3 التاج والإكليل 4/ 310

4 - شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة 1 / 372

الأحد، 30 مارس 2025

معاني العيد وتطلعات النصر المنشود

الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر والعزة للإسلام، والنصر والتمكين لحملة رايته الكرام، الله أكبر والذل والهوان والخزي والعار للخونة اللئام، الله أكبر ما صام المسلمون شهر رمضان، وباتوا لربهم قائمين وراكعين وساجدين، متلذذين بتلاوة القرآن ومناجاة ذي الجلال والإكرام، الله أكبر ما نفّس المتصدقون بصدقاتهم في هذا الشهر الكرباتِ عن الفقراء والأيتام، ثم برزوا لله يوم العيد على تقوى من الله ورضوان، ووقفوا بين يديه متذللين ومنكسرين، يرجون رحمته ويخافون عذابه، وحاشاه جل ثناؤه أن يُحرم الراجي عفوَه ورحماتِه، أو يرجعَ طارقُ بابه غيرَ ظافر بسؤله، فلو أراد إبعادنا من رحمته، أو حرماننا من مواهبه، لما سمح لنا بملازمة بابه، وصدق من قال:

"إذا أردت ان تعرف عند الله مقامك فانظر في ما أقامك"

فإذا وجدت أن الله قد أقامك في قرع بابه فاعلم أنه يريد أن يفتح لك.

فالله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كلما هل هلال وأقمر، الله أكبر كلم أورق الشجر وأثمر، الله أكبر مما نخاف ونحذر، الله أكبر وكل ما دونه فحقير وأصغر..

الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان، والحمد لله على نعمة التوفيق  للصيام والقيام وتلاوة القرآن، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده المصطفى، وأمينه المجتبي، ورسوله المبعوث إلى كافة الورى، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الدجى، وعلى أصحابه مفاتيح الهدى، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا أيها المؤمنون الكرام: هذا يوم من أيام الله، فيه تتجلى نعمة الله على عباده المؤمنين؛

- فهو يوم فرح بالانتصار على النفس وعلى الشيطان، وبنعمة التوفيق لطاعة الرحمن، وهو يوم فرح بالاصطلاح مع الله تعالى، وإن أسعد أيام المرء هو ذلك اليوم الذي يصطلح فيه مع الله، ولذلك قيل"كل لا يوم لا تعصي الله فيه فهو عيد".

وجاء في قصة سيدنا كعب بن مالك رضي الله عنه حينما تخلف عن غزوة تبوك ، ثم ندم وتاب إلى الله،  فلمّا نزلت آية قبول توبته، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم عليه، فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل من السّرور، وقال له:   "أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك "رواه البخاريّ ومسلم 

والصائم في رمضان قد انتصر على نفسه وهواه، واصطلح مع سيده ومولاه، إذ كف جوارحه عن الآثام، وأخضع هواه للانسجام مع شريعة الملك العلام، وأي انتصار أعظم من قهر النفس وزجرها عن الحرام؟ وأي فضل أعظم من نعمة التوفيق لطاعة ذي الجلال والإكرام؟ وهو القائل جل جلاله: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ". يونس58 

فَحُقَّ للصائم أن يفرح في هذا اليوم البهيج بفضل الله ورحمته، وفي الحديث الشريف: "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرِحَ بِصَوْمِهِ". رواه الإمام أحمد في مسنده 

ويستفاد من هذا الحديث: أن الصيام من أجل الأعمال التي يتزين بها المؤمن للقاء ربه، فكما يفرح المؤمن بفطره يوم العيد، وكما يفرح بمائدة الإفطار التي تعد له كل ليلة،  كذلك سيفرح فرحة أعلى وأجل بجائزة صومه يوم احتفائه بلقاء ربه.

وإن فرح المؤمنين ببهجة العيد، لا ينافي الشعور والاهتمام بما يمر به أهلنا في غزة من آلام، فإن الفرح بالعيد مظهر من مظاهر الشكر، والشريعة الإسلامية أمرتنا بإظهار شكر النعم، ولم تأمرنا عند المصائب بإظهار الحزن والجزع، بل نهتنا عن ذلك، قال الله عزوجل: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" آل عمران139

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، أيها المؤمنون: ويوم العيد هو يوم يتلقى فيه المؤمنون جوائزهم  من الكريم المنان، مكافأة لهم على فوزهم في شهر رمضان، جوائز لا تُضاهى بمتاع الدنيا ولا تُقدر بأثمان، إنها جوائز المغفرة والشفاعة واستلام مفاتيح الريان؛

فقد  صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". رواه مالك في الموطأ 

وقال عليه الصلاة والسلام: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، فيَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ؛ فَيُشَفَّعَانِ". رواه البيهقي في شعب الإيمان 

وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ". رواه البخاري في صحيحه 

وإننا لنرجوا أن لا نبرح  هذا المقام حتى نستلم جوائز صيامنا وقيامنا من الله تعالى، فقد روى الطبراني في المعجم الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"إذا كان يومُ الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطريق فنادَوْا: اغدوا يا معشر المسلمين إلى ربّ كريم، يمنّ بالخير ثمّ يثيب عليه الجزيل، لقد أُمرتم بقيام الليل فقُمتم، وأُمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربَّكم، فاقبِضُوا جوائزكم، فإذا صلّوا نادى منادٍ: ألا إنّ ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمّى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة، فقال: قد غفرت لكم ذنوبكم كلّها".

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

- أيها المؤمنون الكرام: ويوم العيد هو  يوم للأرحام يجمعها على البر والصلة، ويوم للأصدقاء وعامة المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور، فتتجدد فيه أواصر الحب ودواعي القرب، وتتناسى فيه النفوس الكريمة أضغانها، فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتصافح بعد انقباض  ...

ولا خير في عيد لا تتحقق فيه تلكم المعاني، فإن المجتمع المتقاطع مقطوع من رحمة الله، محروم من بركات السماء والأرض، ففي الحديث الشريف: "القاطع للرحم منقطع من رحمة الله". أخرجه البخاري 

وأبواب الجنة موصدة في وجه أهل العداوة والبغضاء، ولا تفتح إلا لأهل المحبة والصفاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ". رواه ابن ماجه في سننه

فإياكم ثم إياكم أن تكونوا ممن قيل فيهم: "ربما فتح لك باب العمل وسد عليك باب القبول". وأولى من تنطبق عليهم هذه القاعدة أهل الأحقاد والحسد، والمؤمن لا تجده إلا نقي الفؤاد صافي السريرة، متساميا عن الأحقاد والإحن، كما قال القائل:

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب

          ولا ينال العلى من طبعه الغضب

فمن تمام الانتصار على النفس أن لا نعود اليوم إلى بيوتنا حتى نتعانق بقلوبنا وأجسادنا، وتفيض أعيننا بالدمع حزنا على ما بدر منا من جفاء وقطيعة نحو بعضنا، فبذلك يرضى عنا ربنا، ويتم علينا نعمته، ويبسط لنا رحمته، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكل مسلم ومسلمة إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: أيها المؤمنون الأخيار: ويوم العيد هو يوم لإظهار شعيرة التكبير والتحق بها ظاهرا وباطنا؛ لقوله تعالى: "وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ". البقرة 185

وقوله صلى الله عليه وسلم: "زَيِّنُوا أَعْيَادَكُمْ بِالتَّكْبِيرِ". رواه الطبراني في الأوسط والصغير 

والتكبير الذي يريده منا الحق جل جلاله ليس مجرد قول باللسان، بل هو اعتقاد بالجَنان، واهتزاز بالوجدان، فمن أيقن أن الله أكبر من كل شيء آثر طاعته على طاعة المخلوقين، وآثر رضاه على رضى الناس أجمعين، واستقام على منهجه وترك مناهج الآخرين،  ومن أيقن أن الله أكبرُ من كل شيء لم يخش أحدا سواه، من هذا المنطلق كان التكبير ولا يزال  سرَّ بعث القوة في نفس كل ثائر بالحق؛

 - فعلى أساس عقيدة التكبير قرر المؤمنون الأولون بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهة جحافل الكفر في كل معترك، غير عابئين بكثرة جيوش أعدائهم، ولا بتحالف الأحزاب عليهم، ولا بغدر اليهود من حولهم، ولا بتخاذل المنافقين في أوساطهم.. وقد أنزل الله في شأنهم: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا". الاحزاب22

وقال جلت قدرته وتقدست أسماؤه: "كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيءٍ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ". آل عمران 146 

- وعلى أساس عقيدة التكبير قرر أجدادنا البواسل  في الجزائر مواجهة فرنسا وقوات الحلف الأطلسي، بما عندهم من عدة بسيطة ومن أسلحة تقلدية، غير عابئين بتلك القوة الهائلة لجيوش الصليبية، ولا متأثرين بذلك الكم الهائل من الخونة الذين تحالفوا مع العدو، وحملوا السلاح ضد بني وطنهم؛ لأنهم أيقنوا أن الله أكبر من فرنسا ومن كل قوة في العالم، فاعتمدوا عليه وحده، ولم يَعْبَأُوا بأي قوة سوى قوته.

-  وعلى أساس عقيدة التكبير هاهم إخواننا في غزة يتحدون العالم أجمع، وقرروا مواجهة الكيان الصهيوني الغاشم، ومن ورائه أمريكا، ومن وراء أمريكا أوربا، ومن دون أولائك وهؤلاء الأنظمة العربية الخائنة، التي قالت بلسان حالها: اقتلوا المقاومة أو اطرحوها أرضا يخل لكم وجه نتنياهيو وتكونوا لديه من المقربين..

 لكنِّ أهلَ غزة قالوا ربنا رب السموات والارض فلن نخشى من دونه أحدا، ولم يزالوا صامدين كالجبال الشامخات، التي لا تهزها العواصف العاتيات، فلم يئنوا لحصار، ولم يهنوا لقصف أو دمار، ولم يتأثروا بخيانة أو خذلان، ولم يعبأوا بتجبر أو طغيان... ذلك لأنهم فقهوا مدلول كلمة: (الله أكبر). وعاشوها واقعا وحياة، فالله أكبر ، وكل ما سواه فحقير وأصغر.

ولزوال الدنيا أهون عند الله من أن لا يحقق وعده لعباده المؤمنين، وقد وعدهم بأن ينصرهم، وهو القائل جل جلاله: "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ". الحج40 

ومن ظن أن الله يخذل أنصاره فليعد النظر في إيمانه، ولكن اقتضت حكمته جل جلاله أن يطيل أمد الامتحان، وأن يؤخر ساعة النصر؛ لكيلا يبقى على الطريق إلا الصادقون، ولكيلا يشارك في معركة الشرف وعملية التمكين خائن أو خبيث، وذلك معنى قوله تعالى: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ". آل عمران 179

فها هي ملحمة غزة لم تدع اليوم خبيثا إلا ميزته، ولا منافقا أو خائنا في الداخل أو الخارج إلا فضحته.. وقد وضعت الأمة كلها أمام امتحان عسير، ومحك خطير، يتميز فيه المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، كما قال جل جلاله: " فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". العنكبوت 3

فعلى المؤمن في ظل هذه الأحداث الجسام، وهذه الفتن المائجة، أن يحدد وجهته، وأن يستبين سبيله، فينحاز لأهل الحق ويبرأ من أهل النفاق، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، وإن الله لغني عن العالمين،  وإن النصر لآت لا ريب فيه، بنا أو بغيرنا، فهذا وعد الله: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ". الفتح3

فلنحذرْ أيها المؤمنون أن ترمينا ملحمة غزة في سلة المستبدَلين، فنكون من الهالكين،  ونندم حين لا ينفع الندم.

فالأمة اليوم كلها مطالبة بالنفير العام، وكلها مخاطبة بقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". التوبة 38 

فالكل مكلف بالنجدة والنصرة، حسب طاقته وجهده، فمن استطاع النصرة بالسلاح وجب عليه ذلك، ومن استطاع النصرة بالمال وجب عليه ذلك، ومن استطاع النصرة بالضغط  السياسي وجب عليه ذلك، ومن استطاع النصرة بمقاطعة العدو وأعوانه ومنتجاته وجب عليه ذلك..

ومن عجز عن هذا وذاك فإنه لا يعجز عن النصرة بالدعاء في كل سجدة، ولا عن الاهتمام بالقضية والتذكير والتحسيس بها وحملها في قلبه ومشاعره..

ومن استطاع النصرة بشيء مما ذكر ولم يفعل، واكتفى بشاهدة الإبادات كما يشاهد المباريات، ثم يهز كتفيه ويمضي لشأنه، وكأن الأمر لا يعنيه، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

اللهم إن أهل غزة قد صبروا وصابروا وجاهدوا كما أمرتهم فاستجب لهم كما وعدتهم.. 

اللهم كما فتحت أبواب السماء بماء منهمر لنصرة نبيك نوح؛ لما دعاك: "إني مغلوب فانتصر". فافتحها اليوم بجند منهمر لنصرة أهل غزة؛ فإن الأطفال والنساء والمستضعفين وكل المؤمنين يدعونك: "إننا مغلوبون فانتصر". فانتصر يا ذا القوة المتين..

الدعاء والصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم