نص مداخلتي بالملتقى السنوي للسيرة النبوية
بزاوية الشهيد بودريس بو لنوار ببضاء برج ولاية سطيف
بعنوان:
"محبة النبي صلى الله
عليه وسلم"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أيها السادة
الحضور: من العلماء والمشايخ والطلبة
والمحبين، أحي حضراتكم جميعا بتحية
الإسلام؛ فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعدُ : فقد كلفني وشرفني شيخ هذه الزاوية العامرة،
سيدي يونس بودريس حفظه الله تعالى، بتقديم مداخلة موجزة حول محبة المصطفى ﷺ.
وقد تنوعت كلمة
العلماء في تحديد معنى المحبة.
فقيل: «الْمَحَبَّةُ مَيْلُ
الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ» وقيل: «الشَّوْقُ
إِلَى الْمَحْبُوبِ» وقيل: «دَوَامُ الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ» وقيل: «اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وقيل: «إِيثَارُ الْمَحْبُوبِ»
ولا مانع من
جمع تلك المعاني كلِها في تعريف واحد جامع، فنقول:
«محبته
ﷺ هي: اتباعُه مع ميل القلب إليه والشوقِ إلى
جنابه، ودوامِ ذكره وإيثارِه على كل محبوب»
والباعث على
المحبة ثلاثة أسباب:
1- الجمال
الحسي كحب الصور الجميلة..
2- الجمال
المعنوي كحب الخصال الحميدة..
3- الإحسان
والإنعام؛ إذ النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
والناظر إلى سيدنا محمد ﷺ يجده قد جمع في شخصه الكريم كل الأسباب الباعثة
على المحبة، من جمال الصورة والظاهر، ومن كمال
الأخلاق وحسن الباطن، ومن إحسان وإنعام.. فهو ﷺ كما قال واصفه: بلغ العلا بكماله، كشف الدجى بجماله، حسنت
جميع خصاله، فيا سامعين لمدحه، صلوا عليه وآله، قال حسان بن ثابت:
وَأَحسَنُ
مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ
خُلِقتَ
مُبَــرَّأً مِــن كُـلِّ عَيــــــبٍ كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَــما تَشاءُ
وقال صاحب
الشفا القاضي عياض: «فَأَيُّ
إِحْسَانٍ أَجَلُّ قَدْرًا.. مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ!
وَأَيُّ إِفْضَالٍ أَعَمُّ مَنْفَعَةً وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ إنعامه إلى
كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ! إذْ كَانَ
ذَرِيعَتَهُمْ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمُنْقِذَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ،
وَدَاعِيَهَمْ إِلَى الْفَلَاحِ وَالْكَرَامَةِ، وَوَسِيلَتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ،
وَشَفِيعَهُمْ، وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْهُمْ، وَالشَّاهِدَ لَهُمْ، وَالْمُوجِبَ
لَهُمُ الْبَقَاءَ الدَّائِمَ وَالنَّعِيمَ السَّرْمَدَ»
وبهذا كان
سيدنا محمد ﷺ مستوجبا للمحبة الحقيقية، شرعا وعقلا وعادة وجبلة.. فكل القلوب تميل إليه طواعية
دون تكلف، كما قل الشاعرالحكيم:
كلُّ القُلوبِ إلىَ الحبيبِ تَمِيـــــلُ وَمعَيِ بِهذَا شـَـاهـــــــدٌ وَدَلِيِــلُ
أَمَّا الــدَّلِيِلُ: إذَا ذَكرتَ محمـــــدا صارت دُمُوعَ العَارِفِينَ تسيـلُ
صَلَّىَ عَلَيْكَ اللهُ يَاَ عَــلَمَ الهُــدَى مَاَ حَنَّ مُشتَـاقٌ وَسَــارَ دليــلُ
فسيدنا محمد ﷺ هو أعظم محبوب على الإطلاق بعد الله جل جلاله، ومحبته
من محبة الله، وهي أصل من أصول الإيمان، فلا يتحق الإيمان إلا بها؛ لقوله ﷺ: «لَا
يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»
وعن عمر رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ
ﷺ: «وَاللهِ لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِيَ». فَقَالَ
لَهُ النَّبِي ﷺ: «لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ
مِنْ نَفْسِهِ». فَقَالَ عُمَرُ: «فَلَأَنْتَ الْآنَ
وَاللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي». فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «الْآنَ يا عمر»
أي الآن بلغت
حقيقة الإيمان لما أحببتني أكثر من نفسك.
لذلك كان الصحابة
رضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يؤثرون رسول الله ﷺ على كل شيء، فكانوا يفدونه بأرواحهم وأولادهم
وأموالهم.. وكانوا يتسابقون إلى التبرك بكل ما تعلق به
ﷺ، كريقه وعرقه وشعره وثيابه وفضلة وضوئه
ومواطن جلوسه.. سئل الإمام علي كرم الله وجهه: كيف كان حُبُّكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فقَالَ: «كَانَ وَاللَّهِ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِنَا
وَأَوْلَادِنَا وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى
الظَّمَإِ».
وعلى الرغم من هذه
المحبة العظيمة
النادرة، فقد أخبر النبيﷺ أنه سيأتي أقوام من بعده يحبونه أكثر
من أصحابه، فقال ﷺ : «مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وماله». وإننا لنرجو أن نكون من هؤلاء...
ولمحبته ﷺ علامات وثمار:
فأما علاماتها : فمن
أهمها:
1- اتباعه والاقتداء به ولزوم
طريقته؛ لقوله تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» فالاتباع برهان على صدق
المحبة، فمن اتصف به فقد استكمل المحبة، ومن قصّر وخالف في بعض الجوانب فهو ناقص المحبة، ولا يخرج عن
أصلها؛ لما روي أن رجلا أقيم عليه حد شرب الخمر، فلعنه بعضهم، وقال: «ما أكثر ما
يؤتى به» فقال له ﷺ: «لَا تَلْعَنْهُ
فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فلم ينف عنه المحبة رغم ارتكابه
للكبيرة وتكررها منه.
2- الشوقُ إليه، والإكثار من ذكره والصلاة عليه، ؛ فمن أحب شيئا أكثر من
ذكره وأحب لقاءه..
3- تعظيمه وتوقيره،
وإظهار الخشوع والانكسار عند ذكره وسماع اسمه؛ قال إمام المحدثين إسحاق التُّجِيْبِيُّ: «كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ لَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا خَشَعُوا وَاقْشَعَرَّتْ
جُلُودُهُمْ وَبَكَوْا».
4- محبة آل بيته وأصحابه، وورثته من
علماء الشريعة والحقيقة، وحملة لوائه وأنصار دينه كمجاهدي غزةَ أواهم الله وعجل
بنصرهم؛ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَحَبَّ من يحب.
5- محبة القرءان العظيم الذي جاء به من عند ربه.
6- الشفقة على أمته والرأفة بها، والنصح لها والسعي في منافعها، وإعذارها
والصفح عن مسيئها... اقتداء به ﷺ إذ كان بالمؤمنين
رؤوفا رحيما...
وأما ثمارها : فتتجلى في
أمرين :
1- أنها سبب في الشعور بحلاوة الإيمان ولذته، وانشراح الصدر
له، واطمئنان القلب به؛ لقوله ﷺ : «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ
فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ
إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا
لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ
يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
2- أنها سبب في
مرافقته في الجنة ؛ لقوله ﷺ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ
أَحَبَّ». وقوله ﷺ عن الحسن والحسين: «مَنْ
أَحَبَّنِي، وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا، كَانَ مَعِي فِي
دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
والخلاصة أيها السادة الكرام: أن محبة المصطفى ﷺ هي الأرواحنا بمنزلة الغذاء لأجسادنا، كما قال الإمام
القسطلاّني رحمه الله: «محبّة رسولِ اللّٰهِ ﷺ هي الحياة التي مَن حُرِمها فهو من جُملة الأموات».
فعلينا أن نتحقق
بها واقعا وحياة، وأن نعمل على ترسيخها في نفوس أبنائنا وبناتنا وسائر المؤمنين؛
عملا بقوله ﷺ: «أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم؛ وحب أهل بيته؛ وقراءة القرآن»
وأن نغتنم مثل
المناسبة الميمونة في التعريف بشمائل المصطفى ﷺ وإبراز مناقبه ومحاسنه، الباعثة على محبته والتأسي به..
وهنيئا لكم أيها المحتفلون بمولد المصطفى ﷺ فإنه يُرجى أن تكونوا رفقاءه في الجنة ؛ لأن (المرء مع من أحب) ولولا محبتكم له ﷺ لما قطعتم الفيافي لأجل الاعتناء به، ولما فرحتم بمولده كل هذا الفرح المنقطع النظير؛ لأن العبد لا يفرح ولا يتعلق إلا بمن يحب..
بارك الله في
جمعكم هذا، وقرَّ الله عيوننا وعيونكم، وشفا صدورنا وصدوركم، بنصر أحباب رسول الله
ﷺ وحملة لوائه في غزةِ الإباء والعزة، وصل اللهم وسلم وبارك
على سيدنا محمد وآله الطاهرين، وصحبه الميامين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.