......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 10 أكتوبر 2024

محبة النبي صلى الله عليه وسلم

 

نص مداخلتي بالملتقى السنوي للسيرة النبوية

بزاوية الشهيد بودريس بو لنوار ببضاء برج ولاية سطيف

بعنوان:
"محبة النبي صلى الله عليه وسلم"

بسم الله  الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أيها السادة الحضور: من العلماء  والمشايخ والطلبة والمحبين،  أحي حضراتكم جميعا بتحية الإسلام؛ فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

وبعدُ :  فقد كلفني وشرفني شيخ هذه الزاوية العامرة، سيدي يونس بودريس حفظه الله تعالى، بتقديم مداخلة موجزة حول محبة المصطفى .

وقد تنوعت كلمة العلماء في تحديد معنى المحبة.

فقيل: «الْمَحَبَّةُ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ»  وقيل: «الشَّوْقُ إِلَى الْمَحْبُوبِ» وقيل: «دَوَامُ الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ» وقيل: «اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وقيل: «إِيثَارُ الْمَحْبُوبِ»

ولا مانع من جمع تلك المعاني كلِها في تعريف واحد جامع، فنقول:

«محبته هي: اتباعُه مع ميل القلب إليه والشوقِ إلى جنابه، ودوامِ ذكره وإيثارِه على كل محبوب»

والباعث على المحبة ثلاثة أسباب:

1- الجمال الحسي كحب الصور الجميلة..

2- الجمال المعنوي كحب الخصال الحميدة..

3- الإحسان والإنعام؛ إذ النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.

والناظر إلى سيدنا محمد يجده قد جمع في شخصه الكريم كل الأسباب الباعثة على  المحبة، من جمال الصورة والظاهر، ومن كمال الأخلاق وحسن الباطن، ومن إحسان وإنعام.. فهو كما قال واصفه: بلغ العلا بكماله، كشف الدجى بجماله، حسنت جميع خصاله، فيا سامعين لمدحه، صلوا عليه وآله، قال حسان بن ثابت:

وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني     وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ

خُلِقتَ مُبَــرَّأً مِــن كُـلِّ عَيــــــبٍ      كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَــما تَشاءُ

وقال صاحب الشفا القاضي عياض: «فَأَيُّ إِحْسَانٍ أَجَلُّ قَدْرًا.. مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ! وَأَيُّ إِفْضَالٍ أَعَمُّ مَنْفَعَةً وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ إنعامه إلى كَافَّةِ  الْمُسْلِمِينَ! إذْ كَانَ ذَرِيعَتَهُمْ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمُنْقِذَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَدَاعِيَهَمْ إِلَى الْفَلَاحِ وَالْكَرَامَةِ، وَوَسِيلَتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَشَفِيعَهُمْ، وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْهُمْ، وَالشَّاهِدَ لَهُمْ، وَالْمُوجِبَ لَهُمُ الْبَقَاءَ الدَّائِمَ وَالنَّعِيمَ السَّرْمَدَ»

وبهذا كان سيدنا محمد مستوجبا للمحبة الحقيقية، شرعا  وعقلا وعادة وجبلة.. فكل القلوب تميل إليه طواعية دون تكلف، كما قل الشاعرالحكيم:

كلُّ القُلوبِ إلىَ الحبيبِ تَمِيـــــلُ       وَمعَيِ بِهذَا شـَـاهـــــــدٌ وَدَلِيِــلُ

أَمَّا الــدَّلِيِلُ: إذَا ذَكرتَ محمـــــدا       صارت دُمُوعَ العَارِفِينَ تسيـلُ

صَلَّىَ عَلَيْكَ اللهُ يَاَ عَــلَمَ الهُــدَى      مَاَ حَنَّ مُشتَـاقٌ وَسَــارَ دليــلُ

فسيدنا محمد هو أعظم محبوب على الإطلاق بعد الله جل جلاله، ومحبته من محبة الله، وهي أصل من أصول الإيمان، فلا يتحق الإيمان إلا بها؛ لقوله : «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»

وعن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ : «وَاللهِ لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِيَ». فَقَالَ لَهُ النَّبِي : «لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ». فَقَالَ عُمَرُ: «فَلَأَنْتَ الْآنَ وَاللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي».  فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : «الْآنَ يا عمر»

أي الآن بلغت حقيقة الإيمان لما أحببتني أكثر من نفسك.

لذلك كان الصحابة رضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يؤثرون رسول الله على كل شيء، فكانوا يفدونه بأرواحهم وأولادهم وأموالهم.. وكانوا يتسابقون إلى التبرك بكل ما تعلق به ، كريقه وعرقه وشعره وثيابه وفضلة وضوئه ومواطن جلوسه.. سئل الإمام علي كرم الله وجهه: كيف كان حُبُّكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ ؟ فقَالَ: «كَانَ وَاللَّهِ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَإِ».

وعلى الرغم من هذه المحبة  العظيمة النادرة، فقد أخبر النبي أنه سيأتي أقوام من بعده يحبونه أكثر من أصحابه، فقال : «مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وماله». وإننا لنرجو أن نكون من هؤلاء...

ولمحبته علامات وثمار:

فأما علاماتها : فمن أهمها:

1-  اتباعه والاقتداء به ولزوم طريقته؛ لقوله تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» فالاتباع برهان على صدق المحبة، فمن اتصف به فقد استكمل المحبة، ومن قصّر وخالف  في بعض الجوانب فهو ناقص المحبة، ولا يخرج عن أصلها؛ لما روي أن رجلا أقيم عليه حد شرب الخمر، فلعنه بعضهم، وقال: «ما أكثر ما يؤتى به» فقال له :  «لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فلم ينف عنه المحبة رغم ارتكابه للكبيرة وتكررها منه.

2- الشوقُ إليه، والإكثار من ذكره والصلاة عليه، ؛ فمن أحب شيئا أكثر من ذكره وأحب لقاءه..

3- تعظيمه وتوقيره، وإظهار الخشوع والانكسار عند ذكره وسماع اسمه؛ قال إمام المحدثين إسحاق التُّجِيْبِيُّ «كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ لَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا خَشَعُوا وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ وَبَكَوْا».

4- محبة آل بيته وأصحابه، وورثته من علماء الشريعة والحقيقة، وحملة لوائه وأنصار دينه كمجاهدي غزةَ أواهم الله وعجل بنصرهم؛ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَحَبَّ من يحب.

5- محبة القرءان العظيم الذي جاء به من عند ربه.

6- الشفقة على أمته والرأفة بها، والنصح لها والسعي في منافعها، وإعذارها والصفح عن مسيئها... اقتداء به إذ كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما...                  

وأما ثمارها : فتتجلى في أمرين :

1- أنها سبب في  الشعور بحلاوة الإيمان ولذته، وانشراح الصدر له، واطمئنان القلب به؛ لقوله : «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» 

2- أنها سبب في مرافقته في الجنة ؛ لقوله : «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». وقوله عن الحسن والحسين: «مَنْ أَحَبَّنِي، وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا، كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

والخلاصة أيها السادة الكرام: أن محبة المصطفى هي الأرواحنا بمنزلة الغذاء لأجسادنا، كما قال الإمام القسطلاّني رحمه الله:  «محبّة رسولِ اللّٰهِ هي الحياة التي مَن حُرِمها فهو من جُملة الأموات».

فعلينا أن نتحقق بها واقعا وحياة، وأن نعمل على ترسيخها في نفوس أبنائنا وبناتنا وسائر المؤمنين؛ عملا بقوله : «أدبوا أولادكم على ثلاث خصالحب نبيكم؛ وحب أهل بيته؛ وقراءة القرآن»

وأن نغتنم مثل المناسبة الميمونة في التعريف بشمائل المصطفى وإبراز مناقبه ومحاسنه، الباعثة على محبته والتأسي به.. 

وهنيئا لكم أيها المحتفلون بمولد المصطفى فإنه يُرجى أن تكونوا رفقاءه في الجنة ؛ لأن (المرء مع من أحب) ولولا محبتكم له لما قطعتم الفيافي لأجل الاعتناء به،  ولما فرحتم بمولده كل هذا الفرح المنقطع النظير؛ لأن العبد لا يفرح ولا يتعلق إلا بمن يحب..

بارك الله في جمعكم هذا، وقرَّ الله عيوننا وعيونكم، وشفا صدورنا وصدوركم، بنصر أحباب رسول الله وحملة لوائه في غزةِ الإباء والعزة، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله الطاهرين، وصحبه الميامين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.  

الاثنين، 26 أغسطس 2024

حكم المأموم إذا فاته الركوع مع الإمام أثناء الصلاة؟

سأل سائل عن إمام ركع ورفع من ركوعه ولم يسمعه بعض المأمومين حتى هوى ساجدا فماذا يفعلون؟

 الجواب

في المسألة أربعة أقوال في مذهب مالك رضى الله عنه، والفتوى فيها بالمشهور وخلاصته:

1- إن حصل ذلك في الركعة الأولى فإنهم يخرون ساجدين مع إمامهم، ولا يأتون بالركوع الذي فاتهم، وتفوتهم تلك الركعة، فيكون حكمهم كحكم المسبوق، وبعد سلام الإمام يقضون تلك الركعة، ولا يسجدون للسهو.

2- إن كان ذلك في غير الركعة الأولى فإنهم يفعلون ما سبقهم به الإمام، فيركعون ويرفعون ثم يلحقون بالإمام في سجوده، فإن فعلوا ذلك فقد تمت لهم الركعة مع الإمام.

وإنما يفعلون ذلك إذا طمعوا أنهم يدركون الإمام قبل أن يرفع رأسه من سجود السجدة الثانية.

فإن لم يرجوا إدراكه فإنهم يلغون تلك الركعة، فيخرون ساجدين مع إمامهم كما في الحالة الأولى، ولا ينشغلون بتحصيل الركوع الذي فاتهم، ثم إذا سلم الإمام قاموا قاضين لتلك الركعة، ولا سجود عليهم أيضا؛ لأن سهوهم حال الاقتداء يحمله عنهم الإمام، بشرط أن يكونوا متيقنين من فوات الركن -وهو الركوع هاهنا- فإن لم يكونوا متيقنين سجدوا بعد السلام؛ لاحتمال أن تكون ركعتهم تامة، فيكون ما أتوا به بعد سلام الإمام زائدا.

 ووجه_التفرقة_بين_الحالتين

أن في الحالة الأولى لم يجر عليهم حكم المأمومية لعدم إدراكهم الركعة مع الإمام؛ لأن الركعة إنما تدرك بالركوع وهو قد فاتهم.

أما في الحالة الثانية فقد انسحب عليهم حكم المأمومية؛ فصح أن يقضوا الركوع في صلب الصلاة.

وكل هذه المعاني يجمعها قول سيدي خليل رضي الله عنه:

"وَإِنْ زُوحِمَ مُؤْتَمٌّ عَنْ رُكُوعٍ أَوْ نَعَسَ أَوْ نَحْوُهُ؛ اتَّبَعَهُ ((فِي غَيْرِ الْأُولَى)) مَا لَمْ يَرْفَعْ مِنْ سُجُودِهَا، أَوْ سَجْدَةٍ فَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِيهَا قَبْلَ عَقْدِ إمَامِهِ تَمَادَى وَقَضَى رَكْعَةً، وَإِلَّا سَجَدَهَا، وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ إنْ تَيَقَّنَ"هـ


الخميس، 22 أغسطس 2024

عوامل أساسية لضمان أمن الوطن واسقراره «نصب الحاكم أنموذجا»

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وأكرمنا بهذه الشريعة الإسلامية الواضحة الغراء، القائمة على رعية مصالح المكلفين، ودرء الفساد عنهم في الدارين، فمن اتبع هداها فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن أعرض عنها فله معيشة ضنكا ثم هو يوم القيامة من الخاسرين.

والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، محمد بن عبد الله أكرم الرسل، وأفضل البشر، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وصحابته أجمعين، ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»

أما بعد /

أيها المؤمنون الكرام: كلنا يعلم أن الأمة الإسلامية تمر اليوم بمرحلة عسيرة، وتعيش ملحمة جهادية خطيرة، على أعتاب بيت المقدس وما حولها، تخوضها طائفة من الؤمنين نيابة عن الأمة الإسلامية كلها جمعاء، نسأل الله تعلى أن يكون لها وليا ونصيرا.

وقد اقتضت سنة الله تعالى أن يستمر الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما قال جل ثناؤه: 

«ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا»

ونحن في الجزائر جزء من هذه المعركة، ولسنا بمنأى عن هذا الصراع الدائر بين محور الخير ومحور الشر، وبسبب رفضنا للتطبيع، ووقوفنا في وجه صفقة القرن، ودعمنا المطلق للمقاومة الفلسطينية -عجل الله بنصرها- قد بتنا مستهدفين من طرف الكيان الصهيوني وأذرعه من حولنا، وعملائه في الداخل والخارج..

وأمام هذه الأخطار الواقعة أو المتوقعة علينا، ينبغي أن تتظافر جهودنا جميعا لمواجهة كافة التحديات المفروضة علينا، دولية كانت أو إقليمية، وخارجية أو داخلية؛ حتى تبقى جزائرنا محفوظةً في وحدتها وتماسكها، وقوية بجيشها وكافة مؤسساتها... وإن لم نكن كذلك فانّى لنا أن نستمر في مناصرة ودعم المقاومة الفلسطينية الباسلة؛ فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

ومن أهم ما ينبغي أن نعمل على تحقيقه في هذه المرحلة الحرجة:

1- أن نعمل على تقوية عوامل الاعتزاز بالانتماء لهذا الوطن المعطر بدماء الشهداء، فإن حب الوطن هو الباعث على التضحية لأجله، والتفاني في حمايته والمحافظة عليه..  

وعلينا أن نتفطن للخطابات السلبية الهادفة إلى إماتة محبة الوطن في القلوب، وخلق جيل متشائم من وطنه، متنكر لتاريخه وأصالته وأمجاده..  

فإن حب الوطن شعبة من شعب الإيمان، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أول من رسخ هذه الوطنية في نفوس أصحابه، بل في نفوس أمته كلها جمعاء، فحينما خرج من مكة مهاجرا وقف على أحد جبالها وخاطبها بقوله:

«والله إنك لأحب البقاع إلي ولولا أني أخرجت منك ما خرجت»

وكان الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين الأولين، إذا ذكروا مكة بكوا شوقا إليها، ولما دخلوها فاتحين كان الرجل ينزل عن ظهر فرسه أو بعيره ويمرغ وجهه في التراب، من شدة المحبة والشوق إلى وطنهم، والرسول صلى عليه وسلم حاضر معهم وما نهاهم عن ذلك، بل هو نفسه صلى الله عليه وسلم كان يقول عن جبل أحد وهو عبارة عن جماد: «أحد جبل يحبنا ونحبه»

وهذا ما ينبغي أن نستشعره نحن اليوم، فحينما ننظر إلى جبالنا أو نتجول في أرجائها نشعر حقيقة أنها تحبنا وأننا نحبها، ونتذكر من خلالها تضحيات أجدادنا، ونستحضر قول شاعرنا:

«من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا.. للاستقلال»

 -2وانطلاقا من هذه العاطفة الجياشة نحو وطننا علينا أن نعمل على ترسيخ وحدته الوطنية، فإن الوحدة الوطنية هي الأساس في المحافظة على قدرات الأمة و بنائها، وهي السبيل إلى تمكينها من الوقوف في وجه أي خطر محتمل؛ فنحن مطالبون بإقامتها في حياتنا وفي علاقاتنا أكثر من أي وقت مضى، وهي ضرورية اجتماعية، وفريضة شرعية لا خيار لنا فيها، لقوله تعالى: 

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا».

 فالواجب على كل فرد أن يكون لإخوانه كالبنيان في التماسك والالتحام، حتى نكون كما قال نبينا صلى الله عليه على وآله وسلم: 

«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه مسلم

فلتتظافر جهودنا جميعا من أعلى السلم إلى منتهاه على تعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية أواصرها بين أفراد شعبنا، بمختلف مكوناته  الثقافية، وأنسجته الاجتماعية، فلا فرق بين عربي وقبائلي، ولا بين شاوي ومِزابي، ولا بين ترڤي ونَمُّوشي.. إلا بالتقوى، فكلنا جسد واحد أبوه الإسلام وأمه الجزائر، كما قال شيخنا ابن باديس رحمه الله، واعلموا أن العدو الخارجي لا سبيل له علينا، ولن يستطيع إيقاف مسيرتنا، إذا ما اتحدنا وتضامنا وكنا يدا واحدة على من سوانا، وقد حذرنا القرآن المجيد من الفرقة والتنازع، وبين لنا العواقب الوخيمة الناجمة عن ذلك، فقال جلت قدرته وتقدست أسماؤه: 

«وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»

3- ولصون وحدتنا علينا أن نحذر من المرجفين الذين يعملون على العبث بأمننا واستقرارنا، ويسعون إلى إضعافنا بين الأمم في هذه المرحلة الحرجة، التي تكالب فيها الأعداء علينا من كل جانب، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: تثبيط عزائم الناس، وتنفيرهم من المشاركة في الانتخابات، أو دعوتهم إلى مقاطعتها.. ولا يقوم بمثل هذا الفعل إلا معتوه، أو عميل معين للأعداء على وطنه؛ لأن الانتخابات قد صارت في العرف الدولي وسيلة أساسية لإثبات شرعية الدولة، وقيام مؤسساتها وتقوية قدراتها.. والداعي إلى مقاطعتها كأنه يريد انهيار ذلك كله.

لهذا ينبغي أن نتسلح بسلاح الوعي، ونفوت الفرصة على هؤلاء المرجفين، فالانتخابات هي وسيلة لإقامة السلطان، وإقامة السلطان واجب شرعي إجماعا؛ 

ومن القواعد الأصولية المجمع عليها أيضا: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» وإقامة السلطان واجب وهو لا يتم في الأعراف الدولية الحديثة إلا بالانتخاب، وإذن: فالانتخاب واجب كفائي، فلو تركناه بحيث يترتب عن تركه عدم تنصيب الحاكم لأثمنا جميعا..

قد يتعلل بعض الناس بغلاء المعيشة ونحو ذلك من النقائص للعدول عن الانتخاب؛ باعتباره لم يعد فيه فائدة في نظرهم، وهذا خطأ في التصور؛ فإن غلاء المعيشة ونحوه لا يصح أن يكون مبررا لترك واجباتنا نحو وطننا، أو ذريعة للتسبب في إضعاف دولتنا، ورحم الله من قال: «تموت الحرة ولا تأكل بشرفها» والحديث قياس. فينبغي أن تكون لدينا أنفة وشهامة؛ فلا نرضى لوطننا أن يكون ضعيفا مهزوما أمام الأعداء، حتى لا ينطبق علينا المثل المشهور: «من أجل كرشو يخلي عرشو»

وعلينا أن نكون عقلاء ولننظر: هل الامتناع عن الانتخاب يحل هذه المشكلة أو يزيدها تعقيدها؟ 

ثم إننا ولله الحمد سائرون شيئا فشيئا نحو الانفراج، بل نحو النمو والازدهار، وتحقيق مزيد من النجاحات والانجازات، ورحم الله سيدنا الثعالبي إذ يقول:إ

إن الجزائر في أحوالها عجـب 

           لا يدوم بها للناس مكروه

ما حلّ عُسر بها أو ضاق مُتسع   

      إلا ويُسر من الرحمن يتلـوه  

فلنتفاءل ولتتظافر جهودنا قمة وقاعدة لبناء جزائر منتصرة اقتصاديا وحضاريا وسياسيا وعسكريا.. وما ذلك على الله بعزيز أو بعيد، إذا ما وجدت النية الخالصة، والإرادة الصادقة، وتوحددت الجهود للارتقاء بهذا الوطن، وفاء بعهد الشهداء الأبرار.

4- ألا وإن من أهم عوامل بناء الوطن والمحافظة عليه:  أن نعمل جميعا حكاما ومحكومين على ترسيخ وتعميم مرجعيتنا الدينية المعهودة، المؤلفة من العقيدة الأشعرية، والفقه المالكي، والتصوف الجنيدي..

فهذه المرجعية كما تتمثل سندنا المتصلَ بنبينا عليه الصلاة والسلام، فهي سياج حامٍ لوحدتنا الوطنية من التفكك، ورابطة جامعة لشعبنا على كلمة سواء..

وتعدد المرجعيات في البلد الواحد، ذريعة إلى الطائفية، وحيثما حلت الطائفية اشتعلت الصراعات الدينية، والصراعات الدينية تؤدي إلى التمزق والانقسام..

والله تعالى يقول لنا: «فاعتبروا يا أولي الأبصار»؛ 

فانظروا إلى الدول التي تعددت فيها المرجعيات الدينية، كسوريا والعراق واليمن وغيرها... كيف كانت عرضة للخراب والانهيار، وكيف سهل على الأعداء أن يدمروها من داخلها..

لذا ينبغي أن نظل حريصين في الجزائر على وحدة مرجعيتنا الدينية، باعتبارها سياجا حاميا لوحدتنا الوطنية.. ومرجعا وملاذا لجميع أبناء الوطن الواحد

مهما تعددت مشاربهم الثقافية، وتنوعت أصولهم العرقية، وتباينت وجهات نظرهم السياسية...                   

5- واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما تقدم من عوامل بناء الوطن والمحافظة عليه مرهون بأن نتقي أسباب الهلاك وموارده، وأن نعمل على إماتتها في مجتمعنا، ومنها:

- كثرة الفسوق والفجور والعصيان، وتجاهر الناس به دون خجل ولا وجل، فذلك هو الخَبَثُ الذي إذا عم هلك بسببه الصالحون والطالحون على حد سواء؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» رواه البخاري

- ومن أبرز أسباب الهلاك التي أصبحت تهددنا: آفة المخدرات التي غزت بلادنا، حتى غدت من جملة الحرب المعلنة علينا، من قِبل لوبيات خارجية وأخرى داخية، يريدون من خلالها أن يسلخوا شبابنا عن قيمهم الإنسانية، ويدمروا بها قدراتهم وقواهم العقلية والنفسية والبدنية..

وإذا تركت هذه الآفة دون معالجة جدية منظمة صارمة.. فلسوف تنخر قوانا مع مرور الزمن، كما ينخر السوس جذوع الشجر،  ولسوف تؤدي بنا إلى بروز جيل حيواني لا يعرف عرفا ولا نكرا، قد يذبح أحدهم أمه أو أباه من أجل الحصول على أقراص مهلوسة..

وقد دلت أصول الشريعة وقواعدها، على وجوب الاحتياط لمثل هذه المفاسد قبل وقوعِها وقبل استفحال أمرها، ومن تلك الأصول: القاعدة الفقهية المتفق عليها: «الضرر يدفع بقدر الإمكان» ودفع الضرر بقدر الإمكان معناه الحيلولة دون وقوعه، وذلك باتخاذ كل الإجراءات والاحتياطات الكفيلة بالوقاية منه، وهذا ما ينبغي أن نفعله بجدية ودراسة منتظمة في مواجهة هذه الآفة المدمرة للأطان، وغيرها من الافات التي تجعلنا محل غضب وسخط عند ربنا جل ثناؤه؛  فاتقوا الله يا عباد الله، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا «وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو هو الغفور الرحيم

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى

 وبعد: أيها المؤمنون: اعلموا أن من أهم العوامل لبقاء وطننا شامخا مستعصيا على الأعداء: دعم الجيش الشعبي الوطني، ورفع معنوياته، والدعاء له.. فلولا تضحياته لما بتنا في دورنا آمنين، فجيشنا اليوم -ولله الحمد- يقوم بأداء واجبه على أحسن ما يرام، في حماية أمن الأمة واستقرارها..

ويتصدى بقوة لكل المحاولات    البائسة، التي تستهدف أمننا وسيادتنا في كل مرة..

ويكفيه مكرمة وتشريفا أن ينال فضل 

الرباط في السبيل الله،  الذي قال فيها

النبي صلى الله عليه وسلم:  «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» رواه البخاري ومسلم 

فعلينا أن نكون له سندا، وأن نتعاون جميعا، حكاما ومحكومين، على تجسيد جميع العوامل المتقدمة في واقع حياتنا، ففيها نجاتنا وسعادتنا، وبها نفوت الفرصة على أعدائنا، ونحافظ على وطننا، الذي فديناه بمليون ونصف من شهدائنا.

الدعاء..


الخميس، 1 أغسطس 2024

استشهاد هنية مكرمة إلهية وشعلة لتجديد القضية واستنهاض الأجيال الفتية

                   الخطبة الأولى

الحمد لله ناصر المجاهدين، ومعز المؤمنين ومنجي الصادقين، وقاهر الطغاة والمستكبرين، ومخزي الخونة والمنافقين..

وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين.

»يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ«

وبعد: قال الله تعالى :  »مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ« 

إن الصدق والوفاء صفتان عظيمتان، وهما معيار الرجولة والإيمان، وعكسهما الكذب والخيانة، وهما من أبرز صفات المنافقين، الذين قال الله في شأنهم: »فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ«

ومن إكرام الله لعباده الصادقين، أن يمن عليهم بحسن الخواتيم، مصداقا لقوله تعالى:  »لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ «وقوله تعالى: »قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ«

ألا وإن أحسن الخواتيم على الإطلاق الشهادة في سبيل الله، كتلك التي أكرم الله بها عبده أبو العبد هنية عليه رحمة الله في الخالدين، فالشهادة هي أسمى وأغلى ما يطلبه المؤمنون الصادقون، وهي اختيار واصطفاء من الله، ويا سعادة من اختاره ربه واجتباه، قال تعالى : »وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ«

فالشهداء قد حباهم ربهم بأعظم مكرمة، وتوجهم بأشرف وسام، واصطفاهم من بين خلقه؛ ليستخلصهم لنفسه ويخصهم بقربه... فلا أكرم ولا أعظم من الشهادة في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ« رواه الترمذي

والشهادة في سبيل الله هي صفقة رابحة، البائع فيها هو المؤمن، والمَبيع هو بذل النفس والمال في سبيل الله، والمشتري هو الله جل جلاله، والثمن هو الجنة، وذلك معنى قوله تعالى :

»إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ«

 

فتلك حقيقة الجهاد والاستشهاد، التي استأثر بها أهل غزة في هذا الزمان، فإن المجاهدين والشهداء قد باعوا أنفسهم لله، والله تعالى قبل منهم ذلك تفضلا منه ومِنَّة. 

وقوله تعالى: »يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ« أي  سواء قَتَلوا أو قُتِلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة في كلتا الحالتين.

والشهادة ليست موتا، بل هي حياة في أعالي الجنات، فالشهداء أحياء بنص القرآن، عند ربهم يرزقون في جنات النعيم، لهم فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ لذلك لا يجوز أن نطلق عليهم اسم الأموات، فقد نهانا القرآن عن ذلك ، فقال تعالى: »وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ« 

فلا تقولوا مات هنية، بل قولوا فاز هنية، أو ارتقى شهيدا لرب البرية.. فالأموات الحقيقيون هم هؤلاء العرب الخونة، الذين ماتت ضمائرهم، وماتت فيهم النخوة والرجولة، وانسلخوا عن القيم والمبادئ، وارتموا في أحضان أعدائهم، راضين بحياة الذل والهوان،  وقديما قال الشاعر:

لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ  

        بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ

ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ

              وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ

وقد أدرك أسلافنا الصالحون قيمة الشهادة في سبيل الله، فكانوا يتسابقون إليها ويحرصون عليها أكثر من حرصهم على الحياة، وإذا ما اصيب أحدهم بسهم في ساح الوغى صاح مبتهجا: »فزت ورب الكعبة«

ويوم أن استشهد زيد بن حارثة في معركة مؤتة، تسلم الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه،  فاقتحم الصفوف على فرسه الشقراء، وقاتل قتالا  مستميتًا حتى أرهقه القتال، فنزل عن فرسه وضرب أقدامها، وحمل الراية بيد والسيف بيد، ويمم العدو قائلا:

يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا

                طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا

وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا

             كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا

   عَلَيَّ إِذْ لاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا

واستمر في قتال الروم حتى قطعت يده اليمنى، فحمل الراية بيده اليسرى حتى قطعت، فحمل الراية بعضديه حتى أُثْخِنَ بالجراح، ثم استشهد رضي الله عنه وأرضاه، فلقّب بعدها بجعفر الطيّار؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد عوّضه بجناحين يطير بهما في الجنة.

ولقد تجست معالم هذه المعاني السامية في حادثة اغتيال القائد البطل الشهيد:  [إسماعيل هنية] الذي نذر نفسه لله تعالى، وعاهد ربه مع إخوانه على الدفاع عن القضية المحورية الكبرى للإسلام والمسلمين في هذا العصر، وهي قضية الدفاع عن المسجد الأقصى، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومنتهى مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومبتدا معراجه إلى سدرة المنتهى..

واكتملت بذلك ملامح وسمات الطائفة المنصورة، التي ورد ذكرها في وعد الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم:  

»لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ « رواه أحمد

فهذا النص النبوي ينطبق تماما على هذه الطائفة الصامدة والمقاومة بأرض غزة المباركة.. 

وانظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ..» وفي رواية: « مَنْ خذلهم» فقد تضمن إشارة وبشارة:

فأما الإشارة: فتتعلق بالجانب الإعجازي في إخبار الصادق المصدوق، بما ستتعرض له هذه الطائفة المجاهدة من خذلان، والذي رأيناه اليوم مجسدا على أرض الواقع.

وأما البشارة: فإن كل هذا الخذلان لن يضرهم بإذن الله. تعالى.

أيها الإخوة المؤمنون: إن مكرمة الشهادة التي أكرم الله بها عبده هنية وإخوانه، ما كانت لتتحقق لولا صدق هؤلاء الرجال مع ربهم ومع امتهم، فهي من جملة الجزاء المشار إليه في قوله تعالى:  »لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ«.

فمن صدق اللهَ صدقه، ومن أحسن العمل أحسن الله له الجزاء:  »هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ«.        

فرغم كل التحديات التي خاضوا غمارها، من سجن واعتقال، وتعذيب وتنكيل، وقتل وتدمير، وإغراء ومساومة، بالمال والجاه والمناصب والامتيازات.. ظلوا ثابتين على مبادئهم، فما لانوا وما ضعفوا وما استكانوا..  وكان شعارهم الثابت أمام المغريات:  »أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ«. 

فضربوا بذلك أروع الأمثلة في الثبات على المبادئ، وإيثار ما عند الله عز وجل، يحدوهم في ذلك قوله تعالى:  »فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ«.

فجددوا فينا سير السلف الصالح في نصرة الحق، والثبات على المبدأ، رغم كل الصعاب، ورغم كل المخاطر التي تحدق بهم من كل جانب، ممتثلين ومجسدين قوله تعالى:  »الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ«.

بالأمس كنا نقرأ في التاريخ والسير، أن الخنساء رضي الله عنها لما بلغها نبأ أستشهاد أبنائها الأربعة،  لم تجزع ولم تبك، ولم تحزن، وقالت قولتها المشهورة:

»الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته«.

ونفس المشهد رأيناه يتكرر اليوم مع آل هنية، فحينما بلغ هنية استشهاد أبنائه وأحفاده، قال:  »رب يسهل عليهم ليست دماؤهم أفضل من دماء شعبي«.

ثم قال: »أشكر الله على هذا الشرف الذي أكرمنا به، باستشهاد أبنائي الثلاثة وبعض الأحفاد«.

وحينما استشهد هو برز ابنه عبد السلام راسخا كالطود الأشم قائلا: (نحمد الله ونشكره، أن أكرم والدي بحسن الخاتمة، بالشهادة التي كان يتمناها ليلا ونهارا..).

كما تجلت علينا زوجة ابنه الشهيد: (إيناس اسماعيل هنية) راضية مبتسمة، لتعطي للعالم الإسلامي دروسا خالدة في الصبر والثبات والرضا بقدر الله عز وجل.

أيها المؤمون الكرام: إن استشهاد هنية ليس موتا للقضية الفلسطينية، بل هو تجديد لها، وشعلة لإيقاد مقاومتها تارة أخرى، وإذا رحل هنية قام ألف هنية، كما قال رحمه الله في آخر تصريح له: »إذا مات سيد قام سيد«. ولله در القائل:

إِنَّ الَّــذِي خَلَقَ الْـحَقِيقَـةَ عَلْقَمًا

         لَمْ يُخْلِ مِـنْ أَهْلِ الْـحـقِيقَةِ جِيلَا

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع الأمة إنه هو الغفر الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وسلام على عباده اللذين اصطفى

أيها المؤمنون الكرام: هكذا يموت الرجال ليرسخوا بموتهم في النفوس عقائد الإيمان، ويبعثوا فيها قوة الطموح والآمال، وتبقى مآثرهم ومواقفهم نبراسا مضيئا ينير الدروب للأجيال... 

وينفضح بموتهم الشامتون الناعقون كالغربان، من المرجفين والمثبطين، والعملاء والمنافقين، ليتحقق فيهم قول الله تعالى: »وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا«.

وقوله تعالى: »إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ«.

وهل يعقل منطقا وإيمانا وإنسانية أن يشمت مسلم بأخيه المسلم؟ ويفرح مع اليهود بموته ويقول: »مستراح منه«. فلا يصدر ذلك إلا من قلوب مريضة،  ضرب عليها النفاق نسيجه، فتحقق فيها قوله تعالى:

»وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ  قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ«.

فاحذروا أيها المؤمنون هذه الطائفة المارقة على دينكم وعلى وطنكم، فإنها راعية للمشروع الصهيوني بامتياز، وإن الجزائر بشعبها ودولتها واقفة بكل مؤسساتها وإمكاناتها مع فلسطين ومقاومتها، وهي بريئة من هذه الكائنات الغريبة.

واعلموا أيها لمؤمنون: أننا اليوم أمام امتحان عسير، ومحك خطير،  يتميز فيه الخبيث من الطيب، والغث من السمين، والمنافق من المؤمن، والكاذب من الصادق... كما قال تعالى: »مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ«. وقال تعالى: »فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ«.

فعلى المؤمن في هذه الأحداث الجسام، وهذه الفتن المتوالية، أن يحدد وجهته، ويستبين سبيله، فينحاز لأهل الحق ويبرأ من أهل النفاق، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه وإن الله لغني عن العالمين، وإن النصر آت لا محالة، بنا أو بغيرنا، كما قال تعالى:  »وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ«. فاحذروا أن يفوتكم شرف النصر فتصبحوا من الخاسرين، وتندموا حين لا ينفع الندم.

اللهم أنزل رحماتك الصيبة، وصلواتك الطيبة، على روح شهيد الأمة، عبدك اسماعيل هنية، اللهم جازه عن الإسلام وأمته خير الجزاء، وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا.

اللهم أيد بنصرك وتوفيقك المجاهدين بأرض فلسطين، واجعل لهم الغلبة على اليهود الآثمين، وأتباعهم الفاجرين،  اللهم داو جرحاهم واشف مرضاهم، وفُكَّ حصارهم، واربط على قلوبهم، وسدد رميهم، واحم ثغورهم..

يا قوي يا متين، يا قريب يا مجيب، يا كهف الضعفاء، ويا سند من لا سند له، ومن منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا مجيب دعوة المضطر إذا دعاه أدرك أهلنا في غزة بلطفك وعنايتك، وأغثهم بنصرك وتأييدك، واجعل اللهم كيد اليهود والمنافقين في نحورهم يَصْلَى به وريدُهم..                  

اللهم أمّنا في أوطاننا واحفظ جيوشنا، وأيّد بتوفيقك ولاةَ أمورِنا، واحفظهم من بطانة السوء التي تزين المنكر وتقبح لهم المعروف، ووفقهم إلى ما فيه خير العباد والبلاد..

اللهم زين ظواهرنا بالمجاهدة، وزين بواطننا بالمشاهدة، وأصلح أعمالنا وأقوالنا وسائر شؤوننا، وبلغ مقاصدنا وآمالنا، وفرج همومنا واقض ديوننا، ويسر معيشتنا وأرزاقنا، واشف مرضانا وعاف مبتلانا، واغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، واختم بالصالحات أعمالنا...

اللهم انظر إلينا بعين رضاك، ولا تصرف وجهك عنا بسوء فعالنا، ولا تحول بيننا وبين أوليائك ومحبيك، ولا تجعلنا مع أعدائك ومعانديك..

اللهم اجعل بلادنا بلاد العلم والدين، وراحة المحتاج والمسكين، واجعل لها بين الأمم صولة وحرمة ومَنَعَةً ودولة، واجعل من السر المصون عزها، ومن السترالجميل حرزها، ومن كادنا فكده، ومن خدعنا فاجعه، ومن وشى بنا فلا تسعده..

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا ومولانا محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين، ومن والاه إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فقوا إليها يرحمكم الله.