......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 24 نوفمبر 2016

وقفات مع قوله تعالى :(ولا يفلح الساحر حيث أتى)

الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شىء قدير ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، والسراج المنير ،  اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ، أما بعد: 

أيها الإخوة الكرام : إن من البلايا التي أصيبت بها البشرية منذ القدم ، ظاهرة السحر والسحرة ، وهي ظاهرة - وللأسف - لا تزال منتشرة إلى يومنا هذا ، بل ازدات في العصر قوة وانتشارا ، ولا تخفى عليكم الويلات التي لحقت العديد من الأسر بسب السحر والشعوذة ، مما يستدعي معالجة هذه الظاهرة الخطيرة ، والتحذير من مخاطرها البالغة على الساحر والمسحور ، وآثارها السيئة على المجتمع بأسره ؛ لذلك سنقف في خطاب هذا اليوم وقفات مختصرات مع قوله تعالى :"وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى"[1].

وقد جاءت هذه الآية في معرض الحديث عن قصة سيدنا موسى عليه السلام مع سحرة فرعون ، واشتملت على الكثير من الفوائد والأحكام ، نستعرض أهمها في العناصر الآتية:

1- أن هذه الآية نفت الفلاح عن الساحر ، ونفي الفلاح عن الساحر يقتضي كفره وخروجه عن دائرة الإسلام والعياذ بالله ؛ لأن الفلاح لا يُنفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر ، ومن الآيات الدالة على كفر الساحر ، قوله تعالى: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر"[2].

وجه الاستدلال : أن قوله:( وما كفر سليمان ) يدل على أنه لو كان سليمان ساحرا - وحاشاه أن يكون كذلك - لكان كافرا . وقوله تعالى :( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) صريح في كفر معلم السحر[3]، وقد جاء السحر مقرونا بالشرك في الحديث النبوي ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :" اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"[4].
 ومذهب جمهور أهل العلم ، منهم مالك بن أنس رحمه الله ، يرون أن الساحر كافر [5] ؛ وبناء على ذلك  قالوا أنه يجب على الحاكم المسلم أن ينفذ حكم القتل في السحرة ، درءا لأذاهم عن الناس ،ومما يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم :"حد الساحر ضربه بالسيف [6] ".

2- أن هذه الآية بينت أن الساحر مهما كانت طريقته ، وأيًّا كان أسلوبه في السحر ، ومهما أتقن فنون صناعة السحر ، ومهما جمع من الأموال من تعاطيه للسحر .... فإنه لن يفلح إطلاقا  ، ولن يصل إلى مراده أبدا ، وستخيب آماله وتتقطع حباله لا محالة ، وسيخسر في   دنياه و أخراه على حد سواء ، (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).

3- أفادت هذه الآية الكريمة أنه إذا كان الساحر  لا يفلح حيث أتى ، فمن باب أولى ألا يفلح  ذلك الذي يأتي إليه ، ويطلب منفعة من جهته ، أو يرجو منه صلاحا لشؤونه ، كطلب السحر بغرض تحبيب المرأة لزوجها ، أو بغرض تزويج البنات .... ومن ذلك حل السحر بسحر مثله، وهو أمرٌ محرم باتفاق الفقهاء  ، فإن الشر لا يزال بالشر ، كما أن النجاسة لا تزال بمثلها ، ولذلك لا يجوز الذهاب إلى السحرة ولو كان ذلك بغرض حل السحر ، وقد جاء في الحديث عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"[7] ، أما من جاءه وصدقه بما يقول فقد كفر بالدين جملة ، كما نص على ذلك الحديث الشريف : " من أتى ساحرا أو عرافا فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد"[8].

4- أن هذه الآية الكريمة من شأنها أن تبعث القوة في قلوب  المؤمنين ، فيتوكلون على الله وحده ويثقون بوعده ؛ لأن الله عز وجل أخبر أن الساحر لن يفلح أبدا ، ولذلك لا ينبغي أن نخاف من السحرة ، وكيف يخاف المؤمن من كيد السحرة ؟ وهو يقرأ قول الله تعالى : " وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ"[9]. 

 ولهذا ينبغي للمؤمن  أن يكون قويا بإيمانه ، وبتوكله على الله ، وألا يعبأ بأمر السحرة وأعوانهم ، وقد قال الله تعالى :"وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ"[10].  ، وقال تعالى : "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ "[11] وانظر إلى سيدنا موسى عليه السلام  كيف وقف ذلك الموقف الثابت  أمام سحرة فرعون ، وقد كانوا قريبا  من ثلاثين ألف ، وخاطبه بتلك اللهجة القوية المقرونة بالتحدي ، كما أخبر عنه القرآن الكريم :" .. قال موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ " [12] .  فأبطله الله سحرهم ، وخيب آمالهم ، وحق فيهم قول الحق جل ثناؤه  :"وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى".

5- أن السحرة  لا يخلو منهم زمان ولا  مكان ، فهم متواجدون منذ عهود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهم إخوان الشياطين فلا يوجد ساحر لا صلة له بالشيطان ،  ولكنه  لمن الغرابة بمكان أن يوجد في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقرأ القرآن العظيم ، ويتلوا ما فيه من الآيات الصريحة في التحذير من السحر وأهله ، وبيان سوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة، ثم تجده يقف أمام أبواب السحرة  ! سواء أكان ذلك أمام بيوتهم ، أم كان أمام الشاشات التلفزونية للسحرة والمشعوذين - والتي ملأت الفضاء في الزمن - يقف أمامهم راجيا منهم جلب منفعة أو دفع مضرة  !  أما قرأ قول الله تعالى:"وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى".
وإذا كان الساحر  لا يفلح حيث أتى ، فكيف يمكنه أن يحقق الفلاح لغيره ؟!  

أيها الإخوة الكرام : بعد هذه الوقفات المختصرات ، ننبه إلى أمرين هامين:

أولهما: أن الوقاية من السحر لها وسائل كثيرة ، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه ، منها:

التوكل على الله تعالى ، فمن توكل على الله حق توكله كفاه ووقاه ؛ مصداقا لقوله تعالى :"ومن يتوكل على
الله فهو حسبه".

- ومنها : المحافظة على ذكر الله تعالى ، خصوصا أذكار الصباح والمساء ، وقراءة المعوذتين والإخلاص ؛
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَتُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ"[13].  

- ومنها : قراءة سورة البقرة في المنزل ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ
وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ "[14] (والبطلة هم السحرة).

وأما الأمرالثاني: فهو أن من زلت قدمه في لحظة من اللحظات ، وتلبس بفعل من هذه الأفعال الشنيعة ، فلا ييئس ؛ فإن الله يغفر الذنوب جميعا ، وعليه أن يبادر بالتوبة إلى الله قبل فوات الأوان ، وأن يقلع عن هذا العمل الباطل ، وليعلم أن التوبة الصادقة تمحو الذنوب والسيئات مهما عظمت ، حتى الكفر والشرك  ، لقوله تعالى : " قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ "[15]وفي الحديث :" التائب من ذنب كمن لا ذب له"[16]  .  وليطلب العفو والمسامحة ممن أذاهم بفعل السحر ، قبل أن يوقف للحساب بين يدي الملك العلام ، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، فيقتص حينئذ من الظالم للمظلوم ، يوم أن تكون الحسنة الواحدة أغلى من الدنيا وما عليها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد: 

عباد الله أوصيكم ونفسي المخطئة المذنبة بتقوى الله ، فاتقوا الله حق تقواه ، وراقبوه مراقبة عبد يعلم يقينا أن الله مطلع عليه ويراه ، وتزودوا من هذه الدار الفانية للآخرة الباقية عملا صالحا يرضاه ، واعلموا أنكم من هذه الدنيا راحلون وإلى الله راجعون ، وبين يديه واقفون ، وعن أعمالكم محاسبون ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، ولا يظلم الله أحدا من العالمين ، وإن تكن حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما.

وإن الله قد أمركم بأمر عظيم ،  بدأه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه ، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه ، فقال عز من قائل ، ولم يزل قائلا عليما ، وآمرا حكيما :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

فاللهم وصل وسلم وبارك على البشير النذير ، والسراج المنير ، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار ، خصوصا على أجلهم قدرا وأرفعهم ذكرا ، ذوي المقام العلي والقدر الجلي ، ساداتنا وأئمتنا الفضلاء ، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة ، وعلى الحسنين الأحسنين أبي محمد الحسن وأبي عبدالله الحسين ، وعلى أمهما الزهراء وخديجة الكبرى وعائشة الرضى ، وبقية أزواج النبي المصطفى ، وعلى الصحابة أجمعين  ، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وانصر الإسلام والمسلمين ، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين ، واخذل الكفرة والمشركين ، والملحدين والمبتدعين ، وأصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين ، وامدد بنصرك وتأييدك وحسنك توفيقك ملوك ورؤساء المسلمين ، ولم شعثنا واجمع شملنا ووحد كلتنا ، وانصرنا على من خالفنا ، واحفظ بلادنا وأصلح أزواجنا وذرياتنا ، واشف مرضانا وعاف مبتلانا ، وارحم موتانا ، واغفر اللهم لوالدينا ولمن علمنا ولمن أحسن إلينا ، ولسائر المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات .


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين




[1] طه 69
[2] البقرة 102.

[3] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، محمد الأمين بن محمد بن المختار الجنكي الشنقيطي ج 4 ص39.

[4] متفق عليه

[5] الموسوعة الفقهية الكويتية ج 24 ص264.

[6] أخرجه الترمذي في سننه ، رقم (14609).

[7] أخرجه مسلم في صحيحه 2230
[8] رواه أحمد في مسنده 9252
[9] البقرة:102  
[10] الطلاق:3 
[11] الزمر:36  
[12] يونس:81    
[13] رواه الترمذي والنسائي وأبو داود
[14] رواه مسلم
[15] الأنفال:38
[16] رواه ابن ماجه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق