......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 10 نوفمبر 2016

العدل بين الأولاد

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد :

 كثيرا ما نسمع عن قصص مؤلمة بسبب عدم العدل بين الأولاد ، مما أدى – في كثير من الأحيان- إلى القطيعة والشحناء بين الإخوة والأخوات ، والعقوق للآباء والأمهات ... فاستحالت بذلك حياة بعض الأسر إلى جحيم لا يطاق ، وإذا تركت هذه الأوضاع على ما هي عليه – دون معالجة -  فستكون نتائجها وخيمة!؟
 لأجل ذلك أردنا أن نقف في خطاب هذا اليوم وقفة موجزة ، نعالج من خلالها هذه الظاهرة الاجتماعية السيئة والخطيرة ،  التي إن تركت دون معالجة كلفت أصحابها خسران الدنيا والآخرة والعياذ بالله ؛ فالظلمُ عاقبتُه وخيمةٌ ، وآثارُهُ أليمة ، وإذا دام دمر بيوت العز والشرف ، قال الله تعالى :"فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" [النمل52]. وأخرجَ البخاريُ ومسلمٌ في صحيحيهما عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ - رضِيَ اللهُ عنهمَا - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ"[رواه مسلم].. ولله در القائل:

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا  * * *  فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلــوم منتبه  * * *  يدعو عليك وعين الله لم تنم

ومن الظلم ألا تعدل بين أولادك ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: "انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ - نحلت أي أعطيت بلا مقابل- النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي ، فَقَالَ أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ ؟ قَالَ لَا ، قَالَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ؛ فإني لا أشهد على جور، ثُمَّ قَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً ؟ قَالَ بَلَى ، قَالَ فَلَا إِذًا".

 ( فَلَا إِذًا ) يعني أنك مادمت تحب أن يكونوا جميعا لك طائعين ؛ فلا تعطي أحدهم وتحرم الآخرين،
 كأن تشتري لأحدهم سيارة .. أو تكتب الدار باسمه .. ثم تحرم بقية إخوته ، هذا ظلم مبين ، فامتناعه صلى الله عليه وسلم عَن الشهادةِ ؛ إنما هو لقُبحِ هذَا التصرفِ وبيان عدم مشروعيته ، والتنبيه على أنه ظلمِ وجورِ ، وهذا الحديث يُعدُ أصلاً في وجوب العدل بين الأولاد ، فالعدل بينهم واجب يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، وفي حديث آخر عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أيضا قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أعدلوا بين أولادكم في النِحَلِ - أي في العطايا -  كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف ". [أخرَجَهُ البيهقيُّ].
 لذلك - أيها الإخوة - كان من أهم ما ينبغي أن يعتمده الوالد في تربية أولاده أن يسوي بينهم في كل ما يمنحهم اياه من ذاته أو من ماله ، فإن رعاهم بعاطفة كان عليه أن يساوي بينهم فيها ، وان منحهم من حنانه كان عليه أن يكون عدلاً في توزيع ذلك عليهم ، وان أكرمهم بشيء من المال كان عليه أن لا يميز أحداً منهم على آخر.

وقد كان أسلافنا الصالحون - وهم قدوتنا وأسوتنا - يلتزمون بهذا الأدبِ الرفيع من  العدلِ بينَ أولادِهِم ، حتى أنهم كانوا يَعدِلونَ بينهم في القُبلةِ .

 ومن ذلك أن إبراهيمُ التيميُّ كان يقولُ : "إنِّي لو قَبَّلتُ أحدَ الصغارِ مِن أولادِي لرأيتُ لِزاماً عليَّ   -أي واجب علي-  أن أقبِّلَ الصغيرَ مثلَه ؛ خوفاً من أن يَقعَ في نفسِ هذا عليَّ أذىً".

 وعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - قال: "كانَ رجلٌ جالساً مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجاءَه ابنٌ له ، فأخذَه فَقبَّلَه ، ثم أجلسَهُ في حِجْرِهِ، وجاءتِ ابنةٌ له فأخذَهَا إلى جَانِبِه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَلَا عدلتَ بينهما ، يعني: ابنَهُ وابنتَه في تقبيلهما". [أخرَجَهُ البزارُ والبيهقيُّ].

والحكمة من إيجاب العدل بين الأولاد واضحة ؛ فَغرْسُ مِثْلِ هِذه الفضائل في نفوسِ الأولادِ ، من شأنه أن يجعل لكَ ذكرا طيباً في حياتِكَ وبعدَ مَمَاتِك ، كما أنه وسلية إلى نشر المحبة بين أولادك ، فينشؤون على المودة والاحترام ، والتعاون والوئام ، بخلاف عدم العدل بينهم فهو مظنة لإثارة مشاعر الحقد والكراهية حتى وان أصبحوا كباراً ، رجلا ونساء ، وهذه مفسدة عظيمة "وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ"[بالبقرة205]. وأي فساد أعظم من أن تتسبب في إثارة العداوة والقطيعة بين أولادك ، ثم تموت فتتركهم أعداء ، ويكون عليك وزر فساد ذات بينهم إلى يوم الدين ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- :" دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لاَ حَالِقَةَ الشَّعْرِ..."[رواه البيهقي]. فأنت بعدم عدلك بين أولادك تحلق دينك ودينهم على حد سواء.

والأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع ، فبصلاحها يصلح المجتمع ، وبفسادها يفسد المجتمع ، وشيوع العدل والتآلف في أفراد الأسرة ينعكس مثله على واقع المجتمع ، كما أن ظهور أسباب الضغينة والبغضاء فيها – أي في الأسرة - ينعكس مثله هو الآخر على المجتمع بأسره ، وكثير من مظاهر الفوضى أو الظلم السارية في المجتمع اليوم ، مردها إلى ما تعانيه كثير من الأسر من إهمال المسؤولية وضياع العدل بين أفرادها ، وهذا يعني أن المتسبب في فساد أسرته كأنه تسبب  في فساد المجتمع بأكمله.

ومن هنا تدركون – أيها الإخوة – قيمة العدل بين الأولاد ومدى أهميته وانعكاس آثاره على المجتمع ، ومن أجل ذلك كان حقاً على الأب أن يساوي بين أولاده في الرعاية والحنان والعطايا.

ولعدم العدل  بينَ الأولادِ صور ومظاهر متعددة ، منها:
أن يفضلَ أحدَهُم في المجلسِ والمقامِ ، أوْ فِي الخطابِ وتصديرِ الكلامِ ، وربَّمَا وزَّعَ التركةَ في حياتهِ ، فيعُطِي الذكورَ ويحرِمُ الإناث ، وربَّماَ اوصى لبعض اولاده بشيء من المال دون الاخرين، وهذه وصيةٌ لوارثٍ وهي غير جائزة لقوله  - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ قدْ أعطَى كلِّ ذي حقٍ حقَهُ فلَا وصيَّةَ لوارثٍ" [أخرَجه أبو داود والترمذي وابن ماجه].

 وفي حديث آخر:إِن الرجل أَو الْمَرْأَة ليعْمَل بِطَاعَة الله تَعَالَى سِتِّينَ سنة ثمَّ يحضرهما الْمَوْت فيضاران فِي الْوَصِيَّة فتجب لَهما النَّار "[أخرجه الْأَرْبَعَة إِلَّا النَّسَائِيّ]


ومثال المضارة في الوصية : أن يوصي لبعض الورثة بزيادة على فرضه الذي قدره  الله له فيتضرر بقية الورثة ، أو يوصي لغير وارث بأكثر من ثلث المال ، فينقص من حقوق الورثة.
 
لكن ان أجاز الورثةُ هذه الوصيةَ – أي وافقوا عليها وأقروها – فهي جائزة بشرط ألا تتجاوز الثلث من التركة.

وقد يتعلل بعض الآباء بأعذارٍ وأسبابٍ لعدم العدل بين أولادهم ؛ كأن يقول أحدهم هذا ابنٌ مطيع وذاك غير مطيع .. وهذا مؤدب وذاك غير مؤدب .. وهذا  قائم بحاجياتي وذاك مشغول عني .. وما أشبه ذلك من المبررات .. والحق أن مثل هذه التصرفات – إن وُجِدت - فإنها لا تُحل التفرقة والتمييز بين أولادنا ،  فالخطأُ لا يعالج بالخطأِ ، والقطيعةً لا تزال بالقطيعةٍ ، والأصل في ذلك القاعدة الفقهية المشهورة : " الضرر لا يزال بمثله و لا بما هو فوقه من باب أولى ". ومن هنا قال العلماء لا يجوز إزالة المنكر بمنكر ؛ لأنه كمن يزيل النجاسة بمثلها.

ولكن يُستثنى من هذا الأصل إن كان أحد الأولاد سفيها لا يحسن التصرف ، أو كان ومبذرا للمال في المعاصي ، فلا حرج على الوالد أن يحرمه من العطاء دون إخوته الراشدين ، قال الله تعالى : "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا"[النساء5 ].. وكل من لا يحسن التصرف في المال فهو سفيه رجلا أو امرأة كبيرا أو صغيرا.

وهناك أمر آخر لا بد من الانتباه إليه وهو أن العطاء ، لا ينحصر في الماديات فحسب ، بل هناك عطاء معنوي قد يكون أهم من العطاء المادي ، فالولد بحاجة إلى عطف وحنان ، وقد يكون في حنانٍ الأب أو الأم ما يغني عن مئات الملايين ، فالذي ينشأ بين حنان واهتمام أمه وأبيه يكون في مستقبله متوازناً نفسياً وفكريا وينعكس ذلك على سلوكه في الواقع ، أما الذي ينشأ في بيت فيه نزاع وخصام ... فيه شقاق وطلاق ... فيه ظلم وقهر وإذلال ... فهذا الولد سينشأ مختلا في أفكاره وعواطفه وأحاسيسه وينكس ذلك على سلوكه في والواقع ، ووكثير من مظاهر الإجرام  - كالمخدرات والقتل والإنحرافات الخلقية- ترجع أسبابها إلى هذه النشأة الأسرية الفاسدة.

ولهذا نجد  النبي - عليه الصلاة والسلام- يلفت انتباهنا  إلى أن من واجبات الأب تجاه أولاده أن يغمرهم بعطفه وحنانه ، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال : "قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  الحسن بن علي ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا ، فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا ، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال من لا يرحم لا يرحم"[رواه البخاري ].
ومعناه أن من لا يرحم أولاده فهو محروم من رحمة ربه والعياذ بالله ، فاتقوا الله عباد الله واعدلوا بين أولادكم ، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول :" إِنَّ الْمُقْسِطِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَابِرٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدِيِ الرَّحْمَنِ بِمَا أَقْسَطُوا فِي الدُّنْيَا " [رواه البخاري ].   وارحموا أولادكم بعطفكم وحنانكم واهتماماتكم وسعة صدوركم تنالون رحمة ربكم.    

غفر الله  لي ولكم وللمسلمين عامة

والحمد لله رب العالمين

هناك تعليق واحد: