......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 1 سبتمبر 2016

العشر الأوائل من ذي الحجة

الحمد لله حق حمده ، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على لطفه وإحسانه ، ونشكره جل ثناؤه على نعمه وآلائه ، ونسأله المزيد من أفضاله ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الغر الميامين.
وبعد / فيا عباد الله : أوصيكم ونفسي الخاطئة المذنبة بتقوى الله عز وجل
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"
أيها الإخوة الكرام : إن الله تعالى طلب منا أن نشكر نعمه ولا نكفرها ، فقال جل ثناؤه: "وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ". ومن النعم التي ينبغي أن نستشعر جلالها ، وأن نوظفها في مرضاته تبارك وتعالى ... هي أن من الله علينا إذ مد في أعمارنا حتى بلغنا موسما عظيما ، وأكرم به من موسم ! فيه تتنزل الرحمات ، وتستجاب الدعوات ، وتضاعف الحسنات، وتكفر السيئات  ....
أتدرون أي موسم هو أيها المؤمنون ؟
إنه موسم العشر الأوائل من ذي الحجة التي عظم الله شأنها ؛ إذ أقسم الله بلياليها في محكم تنزيله ، والله لا يقسم إلا بما كان معظما عنده ، قال جل ثناؤه: "وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ" [الفجر1]. واليالي العشر هي العشر الأولى من ذي الحجة ، كما فسرها سادتنا الفضلاء ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم. [ابن كثير ج 4 /ص 535 ].
ففي هذهِ العشرِ المبُارَكات تجتمعُ أمهات العبادات ، من حج وصلاة وصدقة وصِّيَام وزكاة ... ولا يتأتى ذلك في غيرها ، ولعل هذا هو السر الذي جعل هذه العشر أفضلَ أيامِ الدنيا على الإطلاق ، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ أيامِ الدنيا أيامُ العَشْرِ" [أخرجَه البزَّارُ وابنُ حِبَّانَ].
وفي هذه العَشْرِ المباركات يومُ عرفةَ وهو خير يوم طلعت فيه الشمس ، وفيه أكمل لنا الدين وأتم علينا نعمته ، ففي يوم عرفة  نزل قولَه تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً" [المائدة:3].
وفي هذه العَشْرِ المباركات يؤدي الحجاج مناسكهم ، من يوم التروية مروراً بموقف عرفات  إلى المبيت بمزدلفة ، رافعين شعار التوحيد والتلبية ، وذاكرين الله بحب وإخلاص نية ، قال تعالى: "فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً" [البقرة: 200]
والعمل الصالح في هذه العشر المباركات أفضل من الجهاد في سبيل الله بنص الحديث ، قال صلى الله عليه وسلم " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلي الله من هذه الأيام - يعني أيام العشر-  قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذاك بشيء " [أخرجَهُ البخاريُّ].
وإن بلوغ هذه الأيام لهو نعمة عظيمة ، ينبغي أن نستشعر جلالها ، وأن نوظفها في مرضاته تبارك وتعالى ؛  فكم رحل قبل حلولها من الراحلين ، وأصبحوا اليوم في قبورهم ثاوين ، وبأعمالهم مرتهنين !! يتمنى أحدهم لعاد لهذه الدار ليركع ركعة واحدة أو يسبح تسبيحة واحدة ، ولكن هيهات ولات حين رجوع !!
ومعلوم - أيها الإخوة – أنه  :
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلّا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخيرٍ طــــــاب مسكنه وإن بناها بشرٍّ خــــاب بانيها

ونحن - ولله الحمد - قد بلغنا هذه الأيام فيا ترى ما عسانا فيها فاعلين ؟
إن الناس في هذه الأيام فريقان:
أولهما : فريق الأبطال .. الفطناء .. الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت..." رواه أحمد والترمذي وابن ماجه].
إن لله عبادا فطــــــــناتركوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علمواأنها ليست لحي وطــــنا
جعلوها لجة واتخذواصالح الأعمال فيها سفـنا


هؤلاء سيخرجون من هذا الموسم منتصرين ، منتصرين على أنفسهم و أهوائهم وعلى الشيطان الرجيم.وسيكسبون فيها من الحسنات ، ويقدمون فيها من الطاعات، والأعمال الصالحات ، ما يؤهلهم لوراثة جنات النعيم " وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". وفي الحديث القدسي : "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها..." فالعمل الصالح هو الطريق إلى الجنة ، وطلب الجنة بلا عمل لها ذنب من الذنوب كما قال الإمام علي رضي الله عنه ، وإنما كان ذنبا ؛ لأن فيه نوعا من الاستهزاء ، فهل يُعقل أن تطلب ولدا من غير زواج ؟ ولذلك قال البارئ جل جلاله : "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها ..." ، لا يكفي أن تريد الجنة ، بل لا بد أن تسعى لها سعيها .
لذلك فإن البطولة أن تنتصر على نفسك .. والبطولة أن تعمل لبناء مستقبلك .. مستقبلك الحقيقي .. حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على فلب بشر ...فبطولتك تكمن في انتصار على نفسك وشيطانك ومخالفتهما كما قال البصيري رحمه الله :
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
وقال آخر:
والنّفس تعلم أنّي لا أصــــــادقها ولست أرشد إلا حين أعصيها
واعمل لدار غداً رضوان خازنهاوالجار أحمد والرّحمن ناشيها

أما الفريق الثاني : فهم الجبناء .. الأغبياء .. المغفلون .. الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم :" والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".[ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه].
هؤلاء - ناس الأماني - سيخرجون من هذا الموسم العظيم كما دخلوه أول مرة .. ولربما خرجوا منه بآثام وأوزار مضاعفة ! لماذا ؟ لأن المعاصي تتضاعف في هذه العشر خاصة ، وفي الأشهر الحرم عامة ، كما تتضاعف فيها الطاعات والحسنات ، وفي ذلك يقول الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله :
"ومعنى الحرم: أن المعصية فيها أشد عقاباً، والطاعة فيها أكثر ثواباً، والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له...".[ التفسير الكبير المجلد 6 /ص41-42].
وإذا كان هذا شأن عرب الجاهلية في تعظيم هذا الموسم ، فمن باب أولى أن يكون أهل الإسلام أشد تعظيما له.
وهنا يتساءل المؤمن : كيف أعظم هذه الأيام ؟ وما ذا أفعل حتى أكون من الأبطال المنتصرين ؟ لا من الأغبياء المنهزمين؟
ويأتي الجواب سريعا:
بأن نستقبل هذه الأيام بالتوبة والإقلاع عن المعاصي والندم عليها ، والعزم على عدم الرجوع إليها ، وينبغي أن يكون ذلك بدافع الحياء من الله والتعظيم لشعائره وحرماته "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب"[الحج32] ، "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ"[الحج30]. واعلم بأن أسعد أيام عمرك هو ذلك اليوم الذي تتوب فيه إلى الله؛  فقد جاء في قصة كعب بن مالك حينما تخلف عن غزوة تبوك ، ثم ندم على ذلك وتاب إلى الله ، فلمّا نزلت آية قبول توبته ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه فسلّم عليه، فاستقبله النبي وهو يبرق وجهه من السّرور، وقال له: " أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك "[رواه البخاريّ ومسلم].
ومن تعظيم هذه الأيام أن تكثر فيها من الأعمال الصالحة ، من صلاة وصدقة ، وقراءة للقرآن وذكر لله تعالى، وأن تضاعف فيها من برك لوالديك وصلتك  لأرحامك ، وأن تقيم فيها من الليل ما تستطيع ... فكل ذلك يشمله مسمى العمل الصالح الوارد في الحديث المتقدم ؛  وقد كان سعيد بن جبيرإذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه ، وروي عنه أنه قال: " لا تطفئوا سرُجكم - مصابحكم - ليالي العشر "، وهو يقصد بذلك قراءة القرآن وقيام الليل.      
ومن الأعمال المستحبة في هذه الأيام على وجه الخصوص:
1- الصيام حسب الاستطاعة ؛ لما رواه أبوداود في سننه  عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة"، ويتأكد منها صوم يوم عرفة وسنخصص له خطبة يوم الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.
2- الإكثار من ذكر الله تعالى من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :"مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ"[أخرجه أحمد]. ولقوله تبارك وتعالى: "ويذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ" [الحج: 28 ]. نقل البخاري في صحيحه عن ابن عباس قوله في هذه الأيام أنها: أَيَّامُ الْعَشْرِ. وروي عن ابنُ عمرَ وأبي هريرةَ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنهما كانا يَخْرجانِ إلى السوقِ في أيامِ العشرِ فيُكبرِّانِ ويكبِّرُ الناسُ بتكبيرِهما.
3- ويستحب لِمَنْ يريدُ أنْ يُضَحِّيَ ألاّ يأخُذَ شيئاً مِنْ شَعْرِهِ ولا ظُفُرِهِ حتى ينحر أضحيته اقتداء بالحجاج الميامين، وفي الحديث:"إذا رأيتمْ هِلالَ ذِي الحِجَّةِ وأرادَ أحدُكم أنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وأظفارِهِ"[أخرجَه مسلمٌ].

فاستبقوا الخيرات أيها المؤمنون ، وجاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم ، واغتنموا هذه الفرصة ؛ فإن أحدكم قد لا يدرك هذا الموسم مرة أخرى ، "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ"[لقمان31].
ولا تنسوا في هذه الأيام الدعاء لإخوانكم في فلسطين وبورما وسوريا وسائر بلاد المسلمين ؛ فإن أحدكم لن يكتمل إيمانه حتى يحب لإخوانه ما يحب لنفسه.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأنشلنا اللهم من أوحال الغواية والشهوات والشبهات ، واشف مرضانا وعاف مبتلانا ويسر أرزاقنا ، واختم اللهم بالصالحات أعمالنا ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمن علمنا .
اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان ، والطف اللهم بأمة سيدنا محمد وارفع عنها مقتك وغضبك ، واحقن دماءها وضمد جراحها ووحد بين صفوفها ، واقهر اللهم أعدانا قهرا يفصم حبلهم ويفني الدهر ، ومن أرادنا بخير فوفقه اللهم لكل خير ، ومن أرادنا بسوء فاجعل تدبيره في نحره واشغله بنفسه.
ونسألك اللهم للقائمين بشؤون هذه الأمة ، ألفة تجمع الشمل ، ووحدة تبعث القوة، ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصا يهون العسير، وتوفيقا ينير السبيل ، وتسديدا يقوم الرأي ويثبت الأقدام، وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.
ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق ، وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين


هناك تعليق واحد: