......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الجمعة، 1 يوليو 2016

خمس وقفات مع توديع رمضان

الحمد لله حق حمده ، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه وإحسانه ، ونسأله المزيد من هباته وأفضاله ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و رسوله  ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
  
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين"
 أما بعد /
أيها الإخوة: قبل أسابيع وقفنا في هذا  المكان  نستعد لاستقبال رمضان ، ونتهيأ لقدومه ، وها نحن اليوم نقف – هاهنا – في المكان ذاته لنودع رمضان ، وإن اللسان ليعجز عن التلفظ  بوداع رمضان ،  و كم يحزننا ونحن نقف لوداع رمضان ، شهر الصيام و القيام .. شهر القرآن .. شهر الجهاد و المجاهدة  .. شهر المغفرة و العتق من النيران ...

لهفي على شهر الصيام الفاضل *** ولى و أصبـــــح كالخيال الحائل
ولى ســــــريعا و انقضى فكأنه *** أحــــلام نوم أو كضــــــوء زائل
فانظــــر إلى أيامه كيف انقضت *** في الحين كالبرق السريع العاجل
شهــــر به الرحمن فضلنا و كم *** فيه لــنا من كـــل خيــــر شــامل
فلفقده ذابت قلــوب أولي النهى *** وغـــدت تودعه بدمـــع هـــامل
يا غـــــافلا مثلي أفق من غفلة *** ودع التواني لا تكــــن متكـاسل
ما هــــــذه الدنيا بــــدار إقامة ***  بل دار زور للأنـــــام باطــــــل
فدع الركـــون لها وحاذرها ولا *** تغــــررك يا هـــــــــذا بسم قاتل
أو ما ترى شهر الصيام مودعا *** رام الرحيل وما ظفرت بطــــائل
و إذا قطعــــت بغفلـــــة أوقـاته *** من لي و من لـك أن نراه لقــابل
فارجع إلى المولى وعامله فــما *** حقا يضيـــع لديه أجــر العـــامل

 نعم أيها الإخوة : قريبا سيرحل عنا رمضان ،  وتلك هي سنة الله في خلقه وأكوانه ، التي اقتضت أن لكل بداية نهاية ، وأن دوام الحال من المحال ، وأن كل شيء لا محالة زائل ، وأنه مهما طال الليل فلا بد من طلوع الفجر ، ومهما طال العمر فلا بد من دخول القبر ، فكما انقضى رمضان بهذه السرعة المذهلة ، ستنقضي أعمارنا بل ستنقضي الدنيا كلها ، ولذلك فمن الغفلة ومن الحماقة أن نركن إلى هذه الدنيا ونطمئن بها ، ونوثرها على الدار الآخرة !!
"بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (الأعلى17).

وإذا رحل رمضان ساء المؤمنين ختامه وتمامه ؛ لما تذوقوا فيه من حلاوة الإيمان ، ومناجاة ذي الجلال والإكرام ، ولما ألفوا فيه من الخيرات والبركات والرحمات .....
وفي توديع هذا الشهر الفاضل ثمة وقفات هامة ينبغي أن نقف معها ؛ لما لها من الأهمية في عاجلنا وعاقبة أمرنا:

الوقفة الأولى: يا ترى من المقبول منا فنهنيه ومن هو المحروم فنعزيه؟

روي عن سيدنا علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه كان إذا كانت آخر ليلة من رمضان نادى :
"يا تُرى من هو المقبول فنهنيه ، و من هو المحروم فنعزيه "!
فهنيئًا لكم يا من أحسنتم استقبال رمضان ، واستثمرتم أوقاته في الطاعات والقربات ، هنيئًا لكم جنات و نهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، هنيئا لكم الدخول إلى الجنة من باب الريان الذي لا يدخل معه إلا الصائمون ، هنيئا لكم الشفاعة ؛ فإن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ..
أما أنتم أيها المحرومون :فجبر الله مصابكم   ، وأي مصيبة أعظم من الحرمان،  أن يحرم الإنسان العفو في موسم العفو ؟ !وأن يُحرم الإنسان الكرم في وقت الكرم ؟! ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من أدرك رمضان فلم يغفر له فيه  .ففي صحيح بن حبان و بن خزيمة رحمهما الله تعالى ، أنه صلى الله عليه وسلم صعد على المنبر فقال :"آمـــيـــــن آمـــيـــــن آمـــيـــــن". قالوا : يا رسوا الله قلت : آمين ، آمين ، آمين ؟ قال صلى الله عليه وسلم : "ذاك جبريل آتاني فقال :يا محمد ، من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار ، فأبعده الله ، قل آمين ، فقلت آمين" (رواه الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان)
هكذا دعا صلى الله عليه وسلم على من أدرك رمضان فلم يغفر له فيه ،  لم يغفر له لأنه محروم، لأنه لم يقبل على أسباب العفو في وقت العفو، فليلة واحدة في رمضان هي خير ليالي السنة شعارها ودعاءها :"اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفو عني"(أخرجه التِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة).
فيا أيها المحرومون :يا من أمضيتم أيام رمضان ولياليه بعيدا عن طاعة الرحمان ..لا تيأسوا .. فأمامكم بقية في رمضان ، بقية و أي بقية !!  يُرجى فيها ليلة القدر .. فالليلة هي ليلة السابع والعشرين ، فلعل فيها ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر.. .فتداركوا ما فات .. ويتوب الله على من تاب.

الوقفة الثانية: لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين

فمن أعظم الخسران أن ينقلب العبد بعد الطاعة خاسرا ، وذلك بأن يضيع ما كسبه ، فيرتد بعد الإقبال على الطاعة مقبلا على المعصية ! وبعد المسارعة إلى الخيرات معرضا عنها ! وذلك دليل على أن القلوب لم تحيا بالإيمان ، وأن الغاية من الصيام لم تتحقق ، ولا ينقلب من الطاعة إلى المعصية إلا من استحوذ عليه الشيطان " إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ "(محمد25).
وأيضا أن هذا الانقلاب يدل – والعياذ  بالله – على عدم القبول ، فمن علامة رد الطاعة عمل المعصية بعدها ، ومن علامة قبولها عمل الطاعة بعدها.
لذلك احذروا أيها الصائمون أن ترتدوا على أدباركم - بعد رمضان - فتنقلبوا خاسرين.

الوقفة الثالثة: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا

إن المؤمنين في رمضان قد عاهدوا الله تعالى على فعل الطاعات وترك المنكرات ، والعهد يجب الوفاء به ، والله وعدنا بالمغفرة والرحمة والعتق من النار في هذا الشهر الفضيل  ، والله تعالى لا يخلف عهده ووعده " ومن اوفى بعهده من الله" .  ولكي يوفي الله بعهده معنا فيجب علينا نحن أن نوفي بعهدنا معه ؛ لأن الله قال : " وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم " ، وبالمفهوم المخالف أننا إن لم نوف بعهده لن يوفي بعهده معنا ، ومن الوفاء بعهد الله أن نستمر على ما كنا عليه في رمضان من الطاعات بمختلف أنواعها .... بأن نكون ربانيين لا رمضانيين ، ومن الذي نعبده في رمضان ثم نعرض عنه بعد رمضان ؟! اليس هو رب العالمين الموجود في كل زمان وكل ومكان بعلمه وإحاطته بجميع خلقه ؟!
ولذلك أيها الصائمون : أوفوا بعهد الله يوفي الله بعهدكم واعلموا أن الله لا يخلف وعده لمن أوفى بعهده.

الوقفة الرابعة : إنما الأعمال بالخواتيم وخير الأعمال أدومها ...

فخواتم عملنا هي التي ستحدد مستقبلنا ومصيرنا عند الله ، ولذلك "كان – صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر" (رواه الشيخان) ، ذلك لأن الأعمال بالخواتيم ، وهذه العشر هي خاتمة رمضان ، كما انها تشتمل على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ... ثم ان الله تعالى يحب العمل الدائم ولو كان قليلا ، ولنا قدوة في نبينا عليه الصلاة والسلام الذي كان اذا عمل عملا اثبته ، اي داوم عليه.
لذلك لا ينبغي أن نبدأ التسلل لواذا مع قرب نهاية هذا الشهر الفضيل !! أو نرتد على أعقابنا كالذي استهوته الشياطين ...!! أو ننقض ما شرعنا فيه من عمل في هذه العشر المباركات ، فنكون كالتي نقضت غزلها ، التي نهانا القرآن ان نكون مثلها ، فقال تعالى : (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها ...) وهي امراة مكية مجنونة كانت تقوم بالغزل في الصباح حتى إذا احكمته وأتقنته عادة عليه في المساء فنقضته كله !! ؟؟
وهذا حال من يقبل على الطاعة في رمضان ثم ينسلخ عنها في آخره.
كما أنه لا ينبغي ان نسخر من المقبلين عل المساجد في رمضان ، أونسميهم بستميات غير لائقة كالعباد المؤقتين ونحو ذلك .. فهذا لا يصح ، بل هو تنفير من الاسلام ، وانما ينبغي ان نعمل على توعيتهم ، وان نرغبهم في الثبات على الطاعة ، وإنما علينا البلاغ بصدق وأخلاص وعلى الله الهداية.

الوقفة الخامسة : وكونوا عباد الله إخوانا

هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا ينبغي أن نكون ، فلا إيمان بدون أخوة : " إنما المؤمنون إخوة" ، ولا أخوة بدون تضامن وتكافل وتعاون على أعباء الحياة ، ولذلك ينبغي أن نجعل من أولويات أعمالنا في ختام هذا الشهر واستقبال عيد الفطر المبارك أن نتضامن مع شريحة الفقراء والأرامل والأيتام ... وهذا العمل من أفضل القربات التي نتقرب بها إلى الله ، لقوله عليه الصلاة والسلام :" أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا ، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا ...." (رواه الطبراني وابن أبي الدنيا).
والمجتمع الإسلامي قد عرفه النبي عليه الصلاة والسلام ووصفه بوصف دقيق بأنه : "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(متفق عليه). ونفى عليه الصلاة والسلام الإيمان عمن ( بات شبعان وجاره جوعان وهو يعلم)(رواه البزار). ونفى عليه الصلاة والسلام رحمة الله عمن لا يرحم غيره من المستضعفين ( من لا يَرحم لا يُرحم ((متفق عليه).
وليس من الإيمان أن نصرف الأموال الطائلة في الأفراح والأتراح والولائم .. وموائد الأكل المختلفة في رمضان .. والحفلات وزخرفة المساجد ..... ثم لا نغيث ملهوفا و لا نرحم مصابا  ؟!! ففي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(أخرجه البخاري).
فهل يرضيك أيها المسلم أن ترى أولادك في  يوم العيد حزنين وغير مسرورين ؟  إذا كنت لا تحب هذا لنفسك وأولادك ، فينبغي ألا تحبه أيضا لإخوانك إن كنت مؤمنا بالله ورسوله واليوم الآخر !! لذلك ينبغي أن تسعى لإعانتهم ومساعدتهم بالقدر الممكن ؛ حتى تكون مؤمنا بحق.

الخاتمة
فأحرصوا رحمكم الله أيها المؤمنون على تطبيق هذه الوصايا في نهاية شهركم هذا وما بعده ، ففيها سعادتكم وفيها فلاحكم ، جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين.


هناك 5 تعليقات: