......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

السبت، 11 يناير 2014

المبحث الثاني :" التعريف بالإمام مالك ومذهبه"


ويشتمل على سبعة مطالب وهي كالآتي :

  المطلب الأول : ترجمة الإمام مالك بن أنس
        

  أ‌-          مولده ووفاته1:
ولد الإمام مالك عام 93 هـ ، وهو العام الذي مات فيه سيدنا أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتوفي في شهر ربيع الأول سنة 179 هـ
        ب‌-        نسبه:
هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري، وأمه هي العالية بنت شريك الأزدية، و جده مالك من كبار التابعين ، روى عن عمر وطلحة وعائشة وأبي هريرة وحسان بن ثابت .. وأما جده الأعلى أبو عامر فهو صحابي جليل.
        ت‌-        أبناؤه:
 ولد للإمام ملك ابنان هما: يحي ومحمد ، وبنت واحدة اسمها فاطمة وكانت ممن يحفظون علمه.
        ث‌-        نشأته وتلقيه العلم:
ولد مالك بالمدينة المنورة، ونشأ في بيت علم وشرف ، فقد كان أخوه النضر مشتغلا بالعلم ملازما للعلماء ، حتى كنى به مالك فكان يقال له: (أخو النضر)  لشهرة أخيه. بدأ مالك يطلب العلم صغيرا تحت تأثير البيئة التي نشأ فيها وتبعا لتوجيه أمه ،  ولولعه بالعلم يروى أنه نقض سقف بيته ليبيعه ويطلب به العلم ، حفظ القرآن الكريم ثم اتجه لحفظ الحديث ، فلازم في البداية ابن هرمز (المتوفى سنة 148 هـ) سبع سنين لم يخلطه بغيره، وقال رحمه الله : " كنت آتي ابن هرمز من بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل ". وبعد ذلك اتجه مالك إلى نافع مولى عبد الله بن عمر، فجالسه وأخذ عنه علما غزيرا ، وقد اشتهر أن أصح الأحاديث هي المروية (عن مالك عن نافع عن ابن عمر). كما أخذ مالك عن ابن شهاب الزهري، وهو أول من دون الحديث[2] ، وقد روى عنه مالك في موطئه 132 حديثا. كما أخذ عن الإمام جعفر الصادق من آل البيت وأخرج له في موطئه 9 أحاديث ، وكذلك روى عن هشام بن عروة بن الزبير، ومحمد بن المنكدر، ويحي بن سعيد القطان الأنصاري، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي، ومن أقرانه الأوزاعي والثوري والليث بن سعد، وقد بلغ عدد شيوخه على ما قيل 300 من التابعين ، و600 من أتباع التابعين ، وتحلق الناس عنده لطلب العلم وهو ابن سبع عشرة سنة، ولم يفتي إلا بعدما استشار سبعين عالما من علماء المدينة وهو ابن أربعين سنة.
        ج‌-        بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بـه
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة أنه قال: " ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلمَ من عالِم المدينة .[3]" وقد قال غير واحد بأنه مالك بن أنس، وذلك لأنه لم يسمى أحد غيره بعالم المدينة ، ولم تضرب أكباد الإبل إلا إليه.
        ح‌-         تحريه في العلم والفتيا:
يروى أنه لما ذكرت الموطآت أمام مالك ، وقيل له: "إن غير واحد من العلماء قد صنع موطئا كموطئك" ! قال: " دعوهم ، فلن يبقى إلا ما أريد به وجه الله". ولهذا كان يتحرى تحريا دقيقا في الفتوى عند التحمل وعند الأداء ، فكان يسأل في العدد الكثير من المسائل ولا يجيب إلا في القليل ، وكان يفكر في المسألة سنين فما يتفق فيها على رأي، وكثيرا ما كان يتبع فتواه بالآية الكريمة "إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين" (الجاثية 31). وكان لا يحدث إلا عن ثقة ، وكان إذا شك في الحديث طرحه.
        خ‌-        توقيره للعلم وللأحاديث النبوية:
كان من توقيره للعلم لا يحدث إلا على طهارة ، ولا يحدث أو يكتب حديثا واقفا ، وكان لا يفضل على المدينة بقعة سواها.
         د‌-         مواهبه وصفاته:
حبا الله مالكا بمواهب شتى حتى أصبح الإمام الذي لا يُفتى وهو في المدينة ، ومن مواهبه:
1)    الحفظ :عرف عنه أنه قوي الحافظة ، فكان يحفظ أكثر من 40 حديثا في مجلس واحد.
2)  الصبر والجلد:  صبر مالك على البلاء ، وقد جلده الحاكم ونكل به عندما أفتى بعدم صحة طلاق المكره ، فلم يتراجع عن رأيه، ثم بعد ذلك عفا عن الحاكم ورفض أن يُقتص له منه.
3)  قوة الفراسة: اتصف الإمام مالك بقوة الفراسة، ولقد قال الإمام الشافعي في فراسته: "لما سِرتُ إلى المدينة ولقيت مالكاً وسمع كلامي، نظر إلي ساعةً، وكانت له فراسة، ثم قال لي: "ما اسمك؟"، قلت: "محمد"، قال: "يا محمد، اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن". ولقد قال أحد تلاميذه: "كان في مالك فراسةٌ لا تخطئ".
         ذ‌-         صفته الشكلية:
كان الإمام مالك طويلاً جسيماً ، شديد البياض إلى الشقرة ، عظيم الهامة[4] ، حسن الصورة ، أصلع، أعين[5]، أشم[6] ، أزرق العينين. قال عيسى بن عمر المدني: "ما رأيت بياضاً قط أحسن من وجه مالك ، وكان عظيم اللحية عريضها ". وكان ربعةً من الرجال ، وكان يأخذ أطراف شاربه ولا يحلقه ولا يحفيه ، ويرى حلق الشارب مُثلة ، ويترك له سبلتين طويلتين، ولم يكن يخضب شعره ، وقد ذَكر أحمد بن حنبل عن إسحاق بن عيسى الطباع قال: رأيت مالكاً بن أنس لا يخضب فسألته عن ذلك فقال: "بلغني عن  عليرضي الله عنه أنه كان لا يخضب".
         ر‌-         مؤلفـــــاته:
    له مؤلفات عديدة ، نذكر منها :
1)  الموطأ :وهو أهم مؤلفاته وأجل آثاره ، اشتغل في تأليفه ما يقارب من 40 سنة. وهو الكتاب الذي بلغت شهرته الآفاق ، واعترف له الأئمة بالسبق على كل كتب الحديث في عهده وبعد عهده إلى عهد الامام البخاري. وقال الإمام الشافعي: "ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك"، وهذا القول قبل ظهور صحيح البخاري. وقال البخاري "أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر"، وكان البخاري يسمي هذا الإسناد بالسلسلة الذهبية ، وكثيرا ما ورد هذا الإسناد في الموطأ. وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: "الموطأ هو الأصل واللباب ، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمذي."
2)  مجموعة رسائل فقهية :رويت عنه رسائل فقهية  بلغت نحو 36 ألف مسألة، وسميت بالمدونة الكبرى. وله مؤلفات أخرى غيرها.
         ز‌-         منهجيته في الموطأ:
التزم مالك في كتابه شروطا من أوثَق الشروط وأشدِّها، فقد كان يسلك منهج التحري والتوخي وانتقاء الصحيح. كما اتبع فيه طريقة المؤلفين في عصره، فمزج الحديث بأقوال الصحابة والتابعين والآراء الفقهية، حتى بلغت آثار الصحابة 613 أثرا، وأقوال التابعين 285 قولا، فكان يقدم في الباب الحديث المرفوع ثم يُتْبعه بالآثار، وأحيانا يذكر عمل أهل المدينة... فكتابه كتاب فقه وحديث في وقت واحد، وليس كتاب جمع للروايات فقط، لذلك تجد بعض الأبواب تخلو من المرويات ، ويتكون كتاب «الموطأ» من 16 فصلا سمّاها مالك بالكتاب، يبدأ بكتاب أوقات الصلاة ، وينتهي بكتاب أسماء النبي صلى الله وعليه وسلم، وقد سمي «الموطأ» بهذا الاسم لأن مؤلفه وطَّأَهُ للناس، بمعنى أنه هذَّبَه ومهَّدَه لهم. ونُقِل عن مالك أنه قال: «عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطَأَنِي عليه، فسميته الموطأ». ومكث الإمام مالك أربعين سنة يقرأ  «الموطَّأَ» على الناس، فيزيد فيه وينقص ويُهذِّب، فكان التلاميذ يسمعونه منه أو يقرؤونه عليه خلال ذلك، فتعددت روايات «الموطأ» واختلفت، بسبب ما قام به الإمام من تعديل على كتابه، فبعض تلاميذه رواه عنه قبل التعديل، وبعضهم أثناءه، وبعضهم رواه في آخر عمره، وبعضهم رواه كاملا، وآخرون رووه ناقصا، فاشتهرت عدة روايات لـ«الموطأ»، أهمها رواية يحيى بن يحيى الليثي ، وهي أشهر رواية عن الإمام مالك، وعليها بنى أغلب العلماء شروحاتهم.

       س‌-      تلامذته
كان تلاميذه من شتى بقاع الأرض؛ لأنه كان مقيماً بالمدينة المنورة ، وكان الحجاج يذهبون لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فيجلسون نحوه يتعلمون منه العلم، فمنهم من كان يطول به المقام عنده ومنهم من كان يقصر به المقام،  ولأنه كان معمراً فقد عاش تسعين عاماً. وأحصى له الذهبي ما يزيد عن ألف وأربعمائة تلميذ:
v    ومن أشهر تلامذة  مالك المصريين:
1)  أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم (المتوفى بمصر عام 191 هـ)، تفقه على مالك مدة عشرين سنة، وتفقه على الليث بن سعد فقيه مصر (المتوفى عام 175 هـ)، كان مجتهداً مطلقاً ، حتى قال عنه يحيى بن يحيى: " أعلم الأصحاب بعلم مالك، وآمنهم عليه " ، وهو الذي نظر وصحح ( المدوَّنة ) في مذهب مالك.
2)  أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم (ولد عام 125 وتوفي سنة 197 هـ) ، لازم مالكاً عشرين سنة، ونشر فقهه في مصر، وكان له أثر في تدوين مذهبه، وكان مالك يكتب إليه: "إلى فقيه مصر" و "إلى أبي محمد المفتي". وتفقه أيضاً على الليث بن سعد، وكان محدثاً ثقة ، وكان يسمى ( ديوان العلم ).
3)  أشهب بن عبد العزيز القيسي (ولد في السنة التي ولد فيها الشافعي وهي سنة 150هـ، وتوفي سنة 204 هـ) بعد الشافعي بثمانية عشر يوماً، تفقه على مالك والليث بن سعد، وانتهت إليه رياسة الفقه بمصر بعد ابن القاسم، وله مدونة روى فيها فقه مالك تسمى ( مدونة أشهب ) وهي غير مدونة سحنون. قال عنه الشافعي: "ما رأيت أفقه من أشهب".
4)  أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم (المتوفى عام 214 هـ) أعلم أصحاب مالك بمختلف أقواله، وإليه صارت رياسة المالكية بعد أشهب.
5)  أصْبَغ بن الفرج الأموي ولاءً (المتوفى عام 225هـ) تفقه على ابن القاسم وابن وهب وأشهب السابق ذكرهم، وكان من أعلم خلق الله بمذهب مالك ومسائله.
6)  محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (المتوفى عام 268هـ)، أخذ الفقه والعلم عن أبيه، ومن عاصره من الفقهاء المالكيين السابق ذكرهم، كما أخذ عن الشافعي، حتى صار علماً في الفقه، وانتهت إليه الرياسة والفُتيا بمصر.
7)  محمد بن إبراهيم الاسكندري بن زياد، المعروف بابن الْمَوَّاز، (والمتوفى عام 269هـ)، أخذ الفقه عن علماء عصره، حتى صار راسخاً في الفقه والفتيا، وله كتابه المشهور بالموازية، وهو أجل كتاب ألفه المالكيون، وأصحه مسائلا، وأبسطه كلاماً وأوعبه، بنى فيه الفروع على الأصول[7].
v    ومن أشهر تلامذة مالك المغاربة:
1-    أبو الحسن علي بن زياد التونسي،(المتوفى عام 183هـ) ، أخذ عن مالك والليث بن سعد، وكان فقيه إفريقية.
2-  أبو عبد الله زياد بن عبد الرحمن القرطبي (المتوفى عام 193) يلقب بشبْطون، سمع الموطأ عن مالك، وكان أول من أدخله الأندلس.
3-    عيسى بن دينار القرطبي الأندلسي، (المتوفي عام (212هـ )، كان فقيه الأندلس.
4-  أسد بن الفرات بن سنان التونسي، أصله من خراسان من نيسابور (ولد عام 145، وتوفي عام 213هـ) وقد مات شهيداً بسرقوسة، إذ كان أمير الجيش الذي ذهب لفتح صقلِّية، وكان عالماً فقيهاً، مجاهداً يقود الجيوش، وجمع بين فقه المدينة، إذ سمع الموطأ من مالك ، وفقه العراق إذ لقي أبا يوسف ومحمد بن الحسن، وله كتاب (الأسدية) التي هي الأصل لمدونة سحنون.
5-    يحيى بن يحيى بن كثير الليثي (المتوفى عام 234 هـ) أندلسي قرطبي، نشر مذهب مالك في الأندلس.
6-    عبد الملك بن حبيب بن سليمان السُّلَمي (المتوفى عام 238هـ)، انفرد برياسة الفقه المالكي بعد يحيى المذكور آنفاً.
7-  سَحنون، عبد السلام بن سعيد التَّنُوخي (المتوفى عام 240هـ) تفقه بعلماء مصر والمدينة، حتى صار فقيه أهل زمانه، وشيخ عصره، وعالم وقته، وهو صاحب ( المدونة ) في مذهب مالك التي يعتمد عليها المالكية.
v    ومن أشهر تلامذة مالك الذين نشروا مذهبه في الحجاز والعراق:
1)  أبو مروان عبد الملك بن أبي سَلَمة الماجِشون (المتوفى عام 212هـ) كان مفتي المدينة زمانه، وقيل: إنه كتب (موطأ) قبل مالك.
2)  أحمد بن الْمُعَذَّل بن غيلان العبدي معاصر ابن الماجشون ومن أصحابه، كان أفقه أصحاب مالك في العراق، ولم يعرف تاريخ وفاته.
3)  أبو إسحاق، إسماعيل بن إسحاق،القاضي (المتوفى عام 282هـ) أصله من البصرة، واستوطن بغداد، تفقه على ابن المعذل، السابق الذكر، ونشر مذهب مالك في العراق.

  المطلب الثاني : نشأة المذهب المالكي وتطوره 

المذهب: لغة: مكان الذهاب وهو الطريق. واصطلاحاً: هو : "هو المسلك الذي يسلكه الفقيه في استنباط  الأحكام من أدلتها ، والأصول التي يعتمدها في ذلك  ، والمسائل الفرعية التي تتفرع عن تلك الأصول ".
ويمكن تقسيم نشأة المذهب المالكي  إلى ثلاثة أطوار ، وهي  كالآتي [8]:
أولا : طور النشأة :
v  ويبدأ هذا الطور من ظهور المذهب المالكي على يد مؤسسه الإمام مالك ، وينتهي بنهاية القرن الثالث الهجري الذي توج بنبوغ عالم العراق القاضي إسماعيل ابن إسحاق (المتوفى سنة 282هـ).
v  وقد تميز هذا الطور بوضع أسس المذهب وجمع سَمَاعات الإمام والروايات عنه وتدوينها وتنظيمها في مؤلفات معتمدة ، وفي هذا الطور ظهرت المدارس الفقهية التي أثرت المذهب المالكي.
ومن أهم مؤلفات هذا الطور                                                :
-1
المدونة للإمام سحنون. 2- الأسدية لأسد بن الفرات. 3-الواضحة لابن حبيب. 4-الموازية لابن المواز. 5-المبسوط للقاضي إسماعيل. 6-المجموعة لابن عبدوس.
ثانيا : طور التطور :
v  ويبدأ هذا الطور من بداية القرن الرابع الهجري ويستمر إلى نهاية القرن السادس الهجري  وبداية القرن السابع الهجري بوفاة الفقيه ابن شاس .
v  وأهم ما يميز هذا الطور هو عكوف فقهاء هذه المرحلة على دراسة الأمهات والدواوين؛ لفك رموزها والترجيح بين رواياتها، وتأصيل مسائلها ،وجعل منهج للترجيح بين الأقوال والروايات ، وقد كان هذا المنهج مبنيا على القاعدة التالية :
v    قول مالك في الموطأ.
v    قول مالك في المدونة.
v    قول ابن القاسم في المدونة.
v    قول ابن القاسم في غير المدونة .
v    قول غير ابن القاسم في المدونة.
v    قول غير ابن القاسم من أهل المذهب خارج المدونة.
v    ونلاحظ على هذه القاعدة أنها جعلت الموطأ في أول الكتب المعتمدة ثم من بعدها المدونة وباقي الأمهات والدواوين .
ومن أهم المؤلفات في هذه المرحلة:
v  -1الرسالة لابن أبي زيد القيرواني .2- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد .   3- المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات لابن رشد الجد. 4- المنتقى للباجي.
  ثالثا : طور الاستقرار:  
v  وهذا الطور يبدأ من بداية القرن السابع الهجري ويستمر إلى العصر الحاضر ، وقد استقر فيه المذهب واقتصر فيه التأليف على الشروح والاختصارات والحواشي، وأصبحت فيه قاعدة ترتيب الترجيح بين الروايات والأقوال كالآتي:
v    قول الإمام الذي رواه ابن القاسم في المدونة.
v    قول الإمام الذي رواه غير ابن القاسم في المدونة.
v    قول ابن القاسم في المدونة.
v    قول غير ابن القاسم في المدونة.
v    قول الإمام الذي رواه ابن القاسم في غير المدونة.
v    قول الإمام الذي رواه غير ابن القاسم في غير المدونة.
v    أقوال علماء المذهب .
v  وفي هذا الطور اختفت مدرسة العراق والمدينة ومدرسة الأندلس، وامتازت مدرسة مصر والمغرب، وظهر ذلك جليا في كتاب مختصر خليل الذي اعتمد فيه على ثلاثة فقهاء من المغرب من جملة أربعة فقهاء بنى على اختيارهم مختصرة وهم : اللخمي ، وابن يونس ، والمازني ، والرابع هو الشيباني.

  المطلب الثالث : أصول المذهب المالكي

نحاالإمام مالك   منحى فقهاء أهل المدينة في الأصول التي بنى عليها اجتهاده، واتخذت بعده أساسا لمذهبه، والأصول اعتمد عليها مالك في فقه نوعان [9] :
          أ‌-          الأصول النقلية:
1 - القرآن : يلتقي الإمام مالك مع جميع الأئمة المسلمين في كون كتاب الله عز وجل هو أصل الأصول، ولا أحد أنزع منه إليه، فكان يستدل بنصه و ظاهره ، ويعتبر  السنة تبيانا له.
 2- السنة: : [10] وقد سار مالك في فهمها على ما سار عليه  السلف وعامة المحدثين قبله ، غير أنه ربما عمم في السنة لتشمل ما يعرف عند علماء الحديث  بالمأثور، وهو بهذا المعنى يعطي  لعمل اهل المدينة وإجماعهم مكانة خاصة ، كما جعل من قبيل السنة فتاوى  الصحابةو كبار التابعين الآخذين عنهم  كسعيد بن المسيب و ابن شهاب الزهري ونافع ، ومن في طبقتهم ومرتبتهم العلمية ، كبقية كبقية الفقهاء السبعة.
2.  :   عمل اهل المدينة : وهو من الأصول التي انفرد بها مالك واعتبرها من مصادر فقه الأحكام والفتاوى، وقد قسّم الإمامالباجي عمل اهل المدينة   إلى قسمين:
*  قسم طريقه النقل ويحمل معنى التواتر كمسألة الآذان، ومسألة الصاع، وترك إخراج الزكاة من الخضروات، وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل والرواية ، و لا مجال فيها للرأي والاستدلال ،  وهذا يحتج به مالك وينزله منزلة الخبر المتواتر.
*  وقسم نقل عن طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالاستنباط والاجتهاد، وهذا لا فرق فيه بين علماء المدينة وغيرهم،  فالمعول عليه في ذلك  ما عضده الدليل والترجيح ، ولذلك خالف مالك أقوال أهل المدينة في مسائل عدة[11].
3- الاجماع:  كان مالكًا أكثر الأئمة الأربعة ذكرا للإجماع واحتجاجا به، والموطأ خير شاهد على ذلك، ويظهر مدلول كلمة الإجماع عنده من قوله : "وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه".
4.  شرع من قبلنا: ذهب مالك إلى أن : "شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ". وسيأتي الحديث عن ذلك في المطلب الموالي.
        ب‌-        الأصول العقلية:
كان للإمام مالك منهج اجتهادي متميز يختلف عن منهج الفقهاء الآخرين، فهو وإن كان يمثل مدرسة أهل الحديث في  المدينة ويقود تيارها، إلا أنه كان يأخذ بالرأي ويعتمد عليه، وربما توسع فيه أكثر مما توسع فيه غيره من  فقهاء الرأي في العراق، ومن الأصول العقلية المعتمدة في المذهب المالكي:
1- القياس:  وهو إلحاق واقعة لم يرد في حكمها نص ، بواقعة قد وقع في حكمها نص ؛ لاشتراكهما في العلة ، كإلحاق النبيذ بالخمر في الحكم ؛ لاشتراكهما في علة التحريم ، وهي: الإسكار.
2- الاستحسان [12] : اشتهر على ألسنة فقهاء المذهب المالكي قولهم: "ترك القياس والأخذ بما هو أرفق بالناس" إشارة إلى أصل الاستحسان؛ لأن الاستحسان في المذهب المالكي إنما لدفع الحرج الناشئ عن اطراد القياس.
3.  المصالح المرسلة  [13]: من أصول مذهب مالك المصالح المرسلة، ومن شرطها ألا تعارض نصًا،  وأن تشهد لها أصولُ الشريعةِ وقواعدُها العامةُ.
4- سد الذرائع: وهو أصل من الأصول التي أكثر مالك الاعتماد عليه في اجتهاده الفقهي، ومعناه المنع من الذرائع، وهو ترك ما يجوز لئلا يؤدي إلى ما لا يجوز ، أو ترك المصلحة المؤدية إلى المفسدة..
5.  العرف والعادة[14]: إن العرف أصل من أصول الاستنباط عند مالك، وقد انبنت عليه أحكام كثيرة؛ لأنه في كثير من الأحيان يتفق مع المصلحة ، والمصلحة أصل بلا نزاع في المذهب المالكي.
6.     الاستصحاب: كان مالك يأخذ بالاستصحاب كحجة، ومؤدى هذا الأصل هو بقاء الحال على ما كان حتى يقوم دليل يغيّره.
7. قاعدة:مراعاة الخلاف:  من بين الأصول التي اختلف المالكية بشأنها "قاعدة مراعاة الخلاف"، فمنهم من عدها من الأصول ومنهم من أنكرها، ومعناها - كما قال ابن عرفة - :"إعمال دليل في لازم مدلول الذي أعمل في نقيضه دليل آخر[15]". ومثاله: إعمال المجتهد دليل خصمه ، القائل بعدم فسخ نكاح الشغار ، في لازم مدلوله الذي هو ثبوت الإرث بين الزوجين المتزوجين بالشغار فيما إذا مات أحدهما، فالمدلول هو عدم الفسخ وأعمل مالك في نقيضه وهو الفسخ دليل آخر، فمذهب مالك وجوب الفسخ وثبوت الإرث إذا مات أحدهما.

المطلب الرابع : أهم خصائص المذهب المالكي

يتميّز مذهب مالك بعدة خصائص جعلته متميزا عن بقية مذاهب أهل السنة ، وفيما يلي بيان أهمها بإيجاز[16]:
أولا : خصوصيات المذهب على مستوى أصول الفقه.
v    يمتاز المذهب المالكي على مستوى أصول الفقه بعدة مزايا وخصوصيات من أهمها:
v  وفرة مصادره و كثرة أصوله ،  بالإضافة إلى القواعد العامة المتفرعة عنها والتي أنهاها بعض المالكية إلى ألف و مائتي قاعدة ، فهي تغطي جميع أبواب الفقه ومجالاته،  وقد أغنت هذه الكثرة الفقه المالكي و أعطته قوة وحيوية، و وضعت بين أيدي علمائه من وسائل الاجتهاد وأدوات الاستنباط ما يؤهلهم لبلوغ درجة الاجتهاد ، ويمكنهم من ممارسته ويسهل عليهم مهمته.  
v  تنوع هذه الأصول إلى نقلية وعقلية ، وهذا التنوع في الأصول وتلك المزاوجة بين العقل والنقل والأثر والنظر، هي الميزة التي ميزت المذهب المالكي عن مدرسة المحدثين ومدرسة أهل الرأي ، وهي سر وسطيته وانتشاره والإقبال الشديد عليه ، وضرب أكباد الإبل إلى إمامه في أيام حياته.
1.  توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كبيرا ، مما ساعد - ويساعد - على سد الفراغ الذي يمكن أن يحس به المجتهد عند ممارسة الاجتهاد والاستنباط ، وهكذا نجده في التعامل مع الكتاب والسنة لا يكتفي بالنص والظاهر ، بل يقبل مفاهيم المخالفة والموافقة وتنبيه الخطاب ، كما يقبل دلالة السياق ودلالة الاقتران ودلالة التبعية، وقد استدل بقوله تعالى: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها" على عدم وجوب الزكاة في الخيل لاقترانها بالحمير التي لا زكاة فيها ، كما توسع في باب القياس فقبل أنواعا من القياس لا يقبلها غيره ، ولم يخصه بباب من أبواب الفقه أو نوع من أنواع الحكم،
كما فعل غيره  من الفقهاء الذين ردوا بعض أنواع القياس وضيقوا مجالاته .
ثانيا : خصوصياته على الصعيد الفقهي .
امتاز المذهب المالكي على الصعيد الفقهي برحابة صدره ، و انفتاحه على غيره من المذاهب الفقهية ، والشرائع السماوية السابقة ، واعترافه بالجميع واستعداده للتعايش معها والاستفادة منها، ويظهر ذلك من خلال الأمور الآتية :
1.  اعتماده على قاعدة :"شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ" التي اتخذها مالك أصلا من أصوله وأسس عليها العديد من مسائل فقهه ، من ذلك مشروعية الجعالة والكفالة أخذا من شريعة يوسف كما حكاه الله عنه في قوله: "ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم" . كما استدلوا على جواز الإجارة والنكاح على منافع بقول صاحب مدين: "إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج".
v  إباحته الاقتداء بالمخالف في الفروع و لو ترك شرطا من شروط الصلاة أو ركنا من أركانها في الفقه المالكي، إذا كان الإمام لا يراه شرطا ولا ركنا في مذهبه هو .
2.     رفضه تكفير المسلمين بالذنب و الهوى فقد سئل مالك عن المعتزلة أكفار هم؟ فقال:" من الكفر فروا".
v  تصحيحه حكم المخالف لمذهب مالك ومنع نقضه وإن خالف المشهور أو الراجح في المذهب المالكي، وهي القاعدة المعروفة بحكم الحاكم يرفع الخلاف .
v  تقريره في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن المختلف فيه لا يجب فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، وهي قاعدة من أهم القواعد التي تحقق التعايش بين المذاهب والطوائف المختلفة وتحفظها من الصراع المذهبي والطائفي.
v    تقريره أيضا أنه إذا لم يوجد نص للمالكية في النازلة المعروضة فإنه يعمل فيها بالفقه الشافعي أو الحنفي على خلاف بينهم.
v    رفض مالك فرض مذهبه وموطئه على جميع الأمة حين عرض عليه الخليفة العباسي ذلك واعتذر مالك عن ذلك .
v  استحسانه العمل برأي المخالف ابتداء في بعض مواطن الخلاف من باب الورع والخروج من الخلاف، كقراءة البسملة سرا، وقراءة الفاتحة خلف الإمام للخروج من خلاف الشافعي.
v    قبوله رواية المبتدع إذا لم يكن داعية لمذهبه و لم يكن ممن يستحل الكذب.
v   إباحته الخروج عن المذهب و العمل بقول المخالف عند الحاجة وفي بعض القضايا التي يصعب فيها الأخذ بالفقه المالكي أو لغير ذلك من الأسباب.
ثالثا : خصوصيات المذهب على المستوى المقاصدي.
إن الإمام مالك عندما يطلق الرأي فهو يعني به ما اختاره من مجموع آراء التابعين، أو رأيه هو الذي  قاسه على ما علم، وأساس الرأي عنده - مهما تعددت ضروبه واختلفت أسماؤه - راجع إلى:" قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد" التي عليها مدار مقاصد الشريعة الإسلامية، فمن من أهم ما امتاز به فقه مالك رعاية المصلحة واعتبارها ، لهذا فهي عمدة فقه الرأي عنده ، حيث اتخذها أصلا مستقلا للاستنباط.

المطلب الخامس : أهم مصادر المذهب المالكي

دُوّنَت كتب متعددة في المذهب المالكي، تعد مصادرا  له ، ومن أشهرها:
1)  المدونة الكبرى: ‏للإمام مالك بن أنس، مؤسس المذهب، برواية سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم عنه . وتعدُّ"  المدونة " أصل المذهب المالكي وعمدته، وقد تداولها أربعة من المجتهدين هم: (مالك، وابن القاسم، وأسد، وسحنون). والمشهور أن مالكا لم يدونها بنفسه ، بل رواها وتلقاها عنه تلميذه : عبد الرحمن بن القاسم الذي سمعها منه أسد بن الفرات...قال سحنون: "عليكم بـ "المدونة": فإنها كلام رجل صالح ورأيه" .وكان يقول: "إنما "المدونة" من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن، تجزئ في الصلاة عن غيرها، ولا يجزئ غيرها عنها.."
2)    الواضحة: لعبد الملك بن سليمان بن حبيب (ت 238هـ)، وهى من أجل الكتب الفقهية في المذهب.
3)    المستخرجة العتبية على الموطأ: ويطلق عليها "العتبية" لمحمد العتبي بن أحمد القرطبي (ت 255هـ).
4)    الموازية: لمحمد بن إبراهيم الإسكندري، ابن المواز (ت 269هـ).
5)    الرسالة : ويطلق عليها : (باكورة السعد) . لابن أبى زيد القيرواني (ت 386هـ).
6)    نوادر ابن أبي زيد:  جمع فيه ابن أبي زيد بين الأمهات : فجاء كتابا ضخمًا.
7)    الذخيرة: للقرافي .
8)  المختصر: "مختصر خليل " في الفقه المالكي للشيخ أبي الضياء خليل بن إسحاق (ت 776هـ) وقد اختصره من جامع الأمهات لابن الحاجب.
ومن أهم الشروح لـ "مختصر خليل":
§        "مواهب الجليل لشرح مختصر خليل " ‏لأبي عبد الله محمد المعروف بـ "الحطاب" (ت 953هـ).
§        "شرح الزرقاني على مختصر خليل"  وهو من الشروح التي لاقت القبول عند متأخري المالكية.
§        "فتح الجليل على مختصر خليل"  لأبي عبد الله محمد الخرشي (ت 1101هـ(.
§        "حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل.
§        "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير " للعلامة شمس الدين محمد بن عرفة الدسوقي (ت 1230هـ(.
§        "الإكليل شرح مختصر خليل"  للشيخ محمد الأمير (ت 1232هـ(.
§        "شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل " للشيخ محمد عليش.
هذه هي أهم مصادر الفقه المالكي التي يستقى منها المذهب ، وهناك كتب كثيرة في الفقه المالكي لا يمكن أن أذكرها كلها في هذا المدخل المختصر.
  المطلب السادس: أهم مصطلحات المذهب المالكي
تميز المذهب المالكي بكثرة الأقوال والمصطلحات ، وينبغي لطلبة العلم أن يتعرفوا على تلك المصطلحات ، فهي من الأهمية بمكان[17].
وننبه في البداية على أن المفتي( المجتهد )  يفتي بالقول الراجح الذي يراه صالحاً في موضوع المسألة،  وأما غير المفتي وهو الذي لم يستكمل شروط الاجتهاد فيأخذ بالمتفق عليه ، أو بالمشهور من المذهب ، أو بما رجحه الأقدمون ، فإن لم يعرف أرجحية قول ، فقيل – كما ذكر الشيخ عليش (1299هـ)- :" أنه يأخذ بالقول الأشد ؛ لأنه أحوط ، وقيل: يختار أخف الأقوال وأيسرها ، لأن ذلك أليق بالشرع الإسلامي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جاء بالحنيفية السمحة ، وقيل: يتخير، فيأخذ بأيها شاء ؛ لأنه لا تكليف إلا بما يطاق" . وقد رتب بعض المالكية الترجيح بين روايات الكتب، والروايات عن المشايخ ، فقال:
v  قول مالك في المدونة أولى من قول ابن القاسم فيها، فإنه الإمام الأعظم، وقول ابن القاسم فيها أولى من قول غيره فيها، لأنه أعلم بمذهب مالك،وقول غيره فيها أولى من قول ابن القاسم في غيرها، وذلك لصحتها. وإذا لم يذكر قول في المدونة، فإنه يرجع إلى أقوال المخرجين.
v    وإذا قيل:(المذهب) يراد به مذهب مالك.
v    وإذا قيل:(المعتمد) فيراد به ما اعتمده أئمة المذهب وساروا عليه في الفتوى.
v  وإذا قيل: ( المشهور ) فيعني مشهور مذهب مالك، وفي ذلك إشعار بخلاف في المذهب، والمعتمد أن المراد (بالمشهور) ما كثر قائله.
v    إوذا قيل: «قيل كذا» أو «اختلف في كذا» أو «في كذا قولان فأكثر» أي أن هناك اختلافاً في المذهب.
v  وإذا ذكر ( روايتان ) أي عن مالك. فقد جرى مؤلفوا الكتب عند المالكية على أن الفتوى تكون بالقول المشهور، أو الراجح من المذهب، وأما القول الشاذ والمرجوح أي الضعيف فلا يفتى بهما، ولا يجوز العمل به في خاصة النفس، بل يقدم العمل بقول الغير عليه؛ لأن قول الغير، قوي في مذهبه.

  المطلب السابع : مدارس الفقه المالكي

كان لمالك تلامذة من شتى بقاع الأرض ، نشروا مذهبه في الآفاق ، وأسست كل طائفة منهم مدرسة مالكية المذهب في الموطن الذي استقرت فيه ، وفيما يلي بيان المدارس المالكية بإيجاز[18]:
v    المدرسة المدنية:
وهي المدرسة التي نشأة في المدينة المنورة بعد وفاة الأمام مالك رضي الله عنه , ومن أقطابها: ابن الماجِشون ، وابن مطرف ، وابن دينار ، وابن كنانة ، وابن نافع وغيرهم ، عملوا على تدريس مذهب الإمام مالك بالمدينة المنورة فازدهر ازدهارا كبيرا في عصرهم ومن بعدهم ، إلى أن استولى الفاطميون على المدينة المنورة فضعف المذهب المالكي كغيره من المذاهب السنية ، بسبب تنكيل الفاطميين بأهل السنة، ثم استعاد المذهب المالكي نشاطه وقوته في المدرسة المدنية بعد سقوط الفاطميين ، وأشتهر فقهاء كثيرون على رأسهم الفقيه المالكي  (بن فرحون) صاحب كتاب : ( تبصرة الحكام في الأقضية والأحكام).
وأهم ما تتميز به هذه المدرسة: تقديمها للحديث عن عمل أهل المدينة وعمل الصحابة ، ومن هنا نجد أن هذه المدرسة أضافت للفقه المالكي شيئا جديدا يتمثل في أخذها بالأحاديث الصحيحة التي جاءت مخالفة لعمل أهل المدينة ، وفي ذلك ثراء وتنوع للفقه المالكي.
v    المدرسة العراقية:
ظهر المذهب المالكي في العراق على يد تلاميذ الإمام مالك الأوائل كابن المهدي والقعنبي وابن المعذِّل , هذا الأخير الذي كان له دورا كبيرا في انتشار المذهب المالكي في العراق، وبالضبط في البصرة , وبلغ المذهب المالكي مرحلة الازدهار بتولي آل حماد القضاء المالكي بالعراق ، فظهر القاضي إسماعيل الذي بلغ مرتبة كبيرة في الفقه ، حتى قال عنه الفقيه الباجي انه بلغ مرتبة الاجتهاد، والى جانبه ابن القصار و الابهري وابن الجلاب ، واستمرت هذه المدرسة في العطاء لمدة ثلاثة قرون ، ولكنها بدأت في الاختفاء بانتقال القاضي عبد الوهاب إلى مصر ، ثم اختفت نهائيا ولم يعد لها ذكر إلا في بطون الكتب تحت ما يعرف بطريقة العراقيين .
ومن أهم ما تميزت به المدرسة العراقية: ما أضافته للفقه المالكي من البرهنة المنطقية على آراء المذهب المالكي، وتخريجها المسائل المستجدة على القياس ، وهذا المنهج اكتسبته المدرسة العراقية من تأثرها بالبيئة التي نشأت فيها ، حيث كان كل مذهب يحاول الانتصار لرؤية ما أمكنه بالأدلة المنطقية.
v    المدرسة المصرية:
تعتبر هذه المدرسة من أكثر مدارس الفقه المالكي تأثيرا فيه ؛ ذلك لأن المصريين هم أكبرُ تلاميذِ مالكٍ وأكثرُهم عددا ، فكان من أوائل من تتلمذ على الإمام مالك عبد الرحمن بن القاسم ، وأشهب ابن عبد العزيز ، وابن وهب ، وابن الحكم وغيرهم كثير ، هؤلاء التلاميذ نقلوا مذهب الإمام مالك إلى مصر،  فأصبح هو المذهب السائد في مصر إلى أن جاء الإمام الشافعي إلى مصر قادما من العراق , وازدهرت هذه المدرسة ازدهارا كبيرا ،  ولكنها شهدت بعد ذلك تراجعا أثناء سيطرة الفاطميين على مصر ، فضعف شأن المذاهب السنية على العموم ، ثم بعد زوال الدولة الفاطمية , عاد المذهب المالكي أقوى وأشد , وقد نبغ في هذه المرحلة نوابغ أمثال القرافي وخليل بن إسحاق والدردير , وغيرهم كثير.
وأهم ما تميزت به هذه المدرسة: هو أخذها بالسنة الأثرية التي تجمع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم المدعمة بالعمل المديني ، و عمل الصحابة والخلفاء الراشدين ، ولا تأخذ بسنة الآحاد إذا خالفها عمل أهل المدينة .
v    المدرسة المغربية :
كان أول من أوصل الموطأ وأدخله إلى المغرب هو: علي ابن زياد التونسي ، الذي تتلمذ على الإمام مالك ، ثم جعل حلقة علمية بتونس ، فتخرج على يديه جملة من الطلبة ، من بينهم: سحنون ، وأسد بن الفرات ، ودارس ابن إسماعيل الذي ادخل المدونة إلى فاس ، وأسس بها المدرسة المغربية.
ولا تكاد تتميز هذه المدرسة عن المدرسة المصرية ، إلا أن أهم ما أضافته للمذهب هو مؤلَف المدونة ، الذي يعتبر من أكبر أمهات المذهب المالكي ، وقد ألفه الإمام سحنون بناء على الإجابات التي كان يجيبه بها ابن القاسم على أسئلته.
v    المدرسة الأندلسية :
كان أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس هو الفقيه زياد بن عبد الرحمان المعروف بشبطون، وتتلمذ على يديه مجموعة من التلاميذ منهم : يحي بن يحي الليثي المعروف بالملك بن الحبيب ، وكان المذهب المنتشر في الأندلس قبل مذهب الإمام مالك هو مذهب الإمام الاوزاعي , إلى أن أصبح يحي بن يحي الليثي مستشارا للخليفة الأموي فأصبح يشير على الخليفة بتولية القضاء لتلاميذ الإمام مالك فأخذ المذهب يفشو في الأندلس إلى أن أصبح هو السائد في الأندلس،
فازدهر المذهب المالكي ازدهارا كبيرا على يد ثلة من العلماء الأفذاذ من أمثال : ابن العربي , وابن عبد البر و الباجي , والشاطبي و ابن جزي الكلبي , وابن عاشر , وغيرهم كثير .
ومنهج هذه المدرسة يعتبر امتدادا لمنهج المدرسة المصرية المغربية المتوسعة في الأخذ بالعمل المديني  ، وقد انقرضت هذه المدرسة بسقوط الأندلس على يد الأسبان والبرتغال سنـة 1492م .
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------


[1] انظر : ترجمة مالك وما يتصل بها : في ترتيب المدارك 1: 102 - 254 . وطبقات الشيرازي: 67 . وحلية الأولياء 6: 316 . والانتقاء: 9 . وصفة الصفوة 2 . 99: وتهذيب التهذيب 10: 5 . والمعارف: 498 . والفهرست: 198 . والديباج المذهب: 17 . والشذرات 1: 289.
[2]    أول جامع الحديث والأثر      ابن شـــهاب آمــــراً له عمــــــر 
      وأول الجـامع للأبــــواب       جمـــاعة فى العصر ذو اقتراب
      كابن جريج وهشيم مالك       ومـــعمـــر وولـــد المبـــــــارك  
      وأول الجامـع باقتصـــار      على الصحيـــح فقط البـــــخارى
      ومسلم من بعــده والأول      على الصواب فى الصحيح أفضل
[3] الترمذي 5/47 رقم 2680
[4] الهامَة: هي الرأْس والجمع هامٌ ، وقيل الهامَة ما بين حَرْفَي الرأْس، وقيل هي وسَطُ الرأْس ومُعظمه من كل شيء ، وقيل من ذوات الأَرواح خاصة (لسان العرب مادة هوم)
[5] الأعينُ: هو الضخم العين واسعُها ، والأنثى عيناء، والجمع منها عِين : ومنه: "وحورٌ عين"( تهذيب اللغة مادة: عان )
[6] الشمم: ارتفاع قَصَبة الأنف وحُسْنُها واستواءُ أعلاها ، فيقال: رجلٌ أشمُّ ، وامرأةٌ شمّاءُ. (المخصص ـ لابن سيده باب التشعث )

[7] كتاب مالك لأبي زهرة: ص254 وما  بعدها.

[8] راجع بعناية : كتاب : المذهب المالكي النشأة والموطن وأثره في الاستقرار الإجتماعي . للدكتور محمد عز الدين الغرياني :ص19 وما بعدها .
[9] انظر: مالك حياته وعصره لأبي زهرة 346. وتاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة 422. واقرأ بعناية فائقة كتاب أستاذنا الدكتور حاتم باي "الأصول الاجتهادية التي يُبنى عليه المذهب المالكي".
[10] وهي : ما صدر عن  للنبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
[11] هو: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي في واقعة.
[12] هو : " ترك الدليل العام في بعض مقتضياته لدليل أقوى منه على سبيل الاستثناء والترخص " ، كأجرة الحمام مثلا ، فالأصل العام عدم جوازها لأنها من جملة بيع المجهول المنهي عنه ، فمدة اللبث في الحمام مجهولة وكمية استهلاك الماء مجهولة أيضا ، ولكن جاز ذلك استحسانا نظرا لحاجة الناس إليه.
[13] وهي : المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها. وسميت مطلقة لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء.
[14] و هو : ما تعارفه الناس وساروا عليه ، من قول، أو فعل، أو ترك، فالعرف العملي: مثل تعارف الناس على البيع بالتعاطي من غير صيغة لفظية، والعرف القولي: مثل تعارفهم على أن لا يطلقوا لفظ اللحم على السمك.

15 : راجع محاضرة اصل اعتبار المآل في خانة البحوث والمحاضرات في هذا الموقع.

[16] راجع: منهجية الإمام مالك الأصولية الخصائص والآثار . للدكتور محمد بن حمادي التمسماني .ص 161 وما بعدها .
[17] انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 20/1 . وكتاب مالك لأبي زهرة: ص 457 وما بعدها.
[18] انظر: الديباج 1/178. وترتيب المدارك 1/309.

هناك 4 تعليقات:

  1. شكرا لك جزيلا شيخي على هذا الموضوع القيم و المفيد وجزاك الله خيرا

    ردحذف
  2. شكرا لك جزيلا شيخي على هذا الموضوع القيم و المفيد وجزاك الله خيرا

    ردحذف
  3. جزاكم الله كل الخير لما قدمتموه لنا

    ردحذف
  4. جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل

    ردحذف