كلاهما قد بلغ مرتبة الاجتهاد ، وكلاهما كان مدفوعا إلى إرضاء الله جل وعلا ، وقد تباينت أنظارهما في ما جرى في المنطقة العربية من أحداث مؤلمة ، فرأى القرضاوي أنها بداية نهضة جديدة تتخلص فيها الأمة من مظالم طال أمدها ، وتستعيد فيها أمجادها وحقوقها المسلوبة وعلى رأسها القدس المحتلة ... وما تخلل تلك الأحداث من مفاسد فهي مغمورة في جنب المصالح المرجوة ، والمصلحة الغالبة يتعين التزامها كما هو معلوم ...
بينما رأى البوطي أنها مكيدة ومؤامرة نسجت حبالها في ظلام الأروغة الصهيوأمركية ، وأن مآلها تدمير قدرات الأمة ، وإدخالها في دوامة من الفتن لا تؤمن عواقبها ، وأن أعداء الأمة لن يدعوها - والوضع على ما هو عليه - لتقطف ثمرة تغيضهم، وخير شاهد صنيعهم في مصر وليبيا ، ولذلك ظل البوطي يصيح بأعلى صوته : " اتقوا الفتنة .. ادرؤوها في مهدها.. كفوا أيديكم واصطلحوا مع الله ..قدروا النتائج وانظروا في المآلات ..ولا تخرجوا عن حكم وسلطة حكامكم المسلمين وإن جاروا وإن ظلموا .."
وإن كنت لم أبلغ مبلغ الرجلين إلا أني أرى أن الحق كان في جانب البوطي ، فهو كان منطلقا من ادراكه الكامل للواقع واكتشافه وتحليله ..... مستندا الى ما قرره العلماء قبله بإجماع ، فقد أجمعوا على أنه لا يجوز الخروج عن الحاكم المسلم ، و لا تجوز مقاتلته ، إذا كان ذلك يؤدي إلى فتنة أو مفاسد أكبر من مفاسد البقاء تحت حكم الحاكم وسلطانه ، وهو ما قررته أصول الشريعة وقواعدها الكلية ، كأصل : " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " وأصل : " الضرر لا يزال بمثله و لا بما هو فوقه من باب أولى " وغيرهما من الأصول الشرعية التي على أساسها قال العلماء لا يغير منكر بمنكر مماثل .. والواقع قد أثبت هذا والنتائج عير خافية.
ولكن خطأ القرضاوي لا يطعن في مصداقية فقهه ، ولا يبرر تصنيفه ضمن القوائم الإرهابية ، ولو كان ذلك كذلك لكان التحالف العربي بقيادة السعودية كله إرهابيا ، لأنه دعم جماعات مقاتلة ، ودمر دولة اليمن .. ولكان علماء السعودية على رأس قوائم الإرهاب لأنهم هم من أفتوا - ولا زالوا يفتون - بذلك ..؟
ولهذا أرى من الإنصاف والتماس أحسن المخارج للفقيهين أن نشبه اجتهادهما باجتهاد سيدنا علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وما جرى بينهما ، فقد اتفق أهل العلم على أن الحق كان في جانب علي ، وأن معاوية كان باغيا ، إلا أن بغيه لم يكن نتيجة تشهٍ أو هوي ، بل كان نتيجة اجتهادٍ شرعي، والمجتهد مأجور وإن أخطأ كما هو معلوم.
والاجتهاد الشرعي المعتبر هو ما كان صادرا عمن توفرت فيه شروط الاجتهاد ، وكان مستندا إلى دليل شرعي معتبر ، أما الأقاويل والآراء الصادرة من غير المؤهلين للاجتهاد ، أو الصادرة من المؤهلين للاجتهاد ولكنها مفتقرة إلى دليل شرعي يدعمها ، فليست من جنس الاجتهاد الشرعي المعتبر ، وإنما هي اتباع للهوى ، وصاحبها مأزور غير مأجور ، لأنه تقول على الله بغير علم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق