......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الاثنين، 5 ديسمبر 2016

تعطير المقام بذكر مولد سيد الأنام وما انطوى عليه من الأسرار والآيات العظام

مقدمة
الحمد لله حق حمده ، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه وإحسانه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و رسوله  ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد/

فعنوان درسنا في هذا المقام الشريف هو :

"تعطير المقام بذكر مولد سيد الأنام وما انطوى عليه من الأسرار والآيات العظام"

وإن الحديث عن سيد الأنام - عليه أفضل الصلاة والسلام -  لهو حديث تطيب القلوب لسماعه ، وتنشرح  الصدور لذكره ، وتستريح الخواطر في ظله ، وتستمتع  البصائر في رحابه ، وتهنأ النفوس في مقامه .... إلا أنه حديث ليس له من الوقت كفاية ،  ولا يحيط به من اللسان بيان ؛  فما من شرف يذكر ، وما من كمال ينعت ، إلا وللرسول الأعظم منه المحل الأسمى والحظ الأوفى ، وأقر أمامكم بأني  عاجز عن  الإتيان بحديث عن رسول الله -  صلى الله عليه وسلم - أشفي به غليل السامعين ، أو أطفئ به لوعة المحبين ؟ وحسبي كما قال  العلماء:  "ما لا يدرك كله لا يترك جله أو قله " ،  وحدثنا في هذا المقام ينحصر في ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وما سبقه وأعقبه من أحداث ، وما اشتمل عليه من حكم وأسرار.

 فصلوا إخـــوتي  الكــــرام ** على النبـــي عـالـي المقـــام
فعليك الصلاة والســـــــلام  **يا شفيعـــنا يــــــوم الزحــام



أولا : نسبه الطاهر الشريف صلى الله عليه وسلم

أيها الكرام : اعلموا أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي محبة القوم الذين نشأ فيهم ، والأسرة الكريمة التي ولد فيها ، ولذلك كان من أهم ما ينبغي أن نتعرف عليه من سيرته العطرة ، أن نتعرف على نسبه الشريف ، ولبعض الفضلاء:

وواجب في حــق ذي التكليف ** معرفة بالنســـــــب الشريف

ونسبه الشريف هُوَ سيّدُنا مُحَمَّدُ بْنُ عبدِ الله بْنِ عَبْدِ المُطّلِب  ابن هَاشِم بْنُ عبد مناف  بن قُصَيّ بن كلاب ابنِ مرةَ بنِ كَعب ، بنِ لُؤيّ بْنِ غَالِبٍ  بنِ فِهْرٍ ابنِ مَالِكٍ  بْنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَة ابْنِ إلياسَ ابنِ مُضَرٍ بْنِ نِزَارٍ بْنِ مَعَد ابْنِ عَدْنَانَ ، وينتهي نسب عدنان - قطعا -  إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام[1].

وقد نظم بعضهم قصيدة في نسبه الشريف فقال:

وواجب في حــق ذي التكليف   معرفة بالنســـــــب الشريف
محمد المختار من خير العرب   أبوه عبد الله عبــــد المطلب
وهاشــــــم عبد مناف وقصيّْ   كذا كلاب مــــــرة كعب لؤي
وغالب فهــــــر ومالكُ النَّضر   كنانة خزيمة كــــــن ذا نظر
مدركة إلياس مُضَـــــر ونزار   معْدٌ وعدنان الذي به الفخار
وليس مما فـــوق عدنان خبر   معول عليه من أهـــــل الأثر


هذا نسبه من جهة أبيه ، أما نسبه من جهة أمه فهو ابن آمنة الزهرية بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب[2] 

ونظم العلامة محمد بن عبد الرحمن  الديسي في نسبه من جهة أمه فقال:

آمنة وهبٌ كذا عبد منـافْ      وزهرةٌ كلاب خذهم باعترافْ
فتلتقي مع النبي في كلاب      وفقنا الله إلى نهج الصـــواب

قد اختار الله تعالى حبيبه وصفيه محمدا صلى الله عليه وسلم من أفضل القبائل العربية ، وأشرف الأسر الهاشمية ،  قال عليه الصلاة والسلام:" : إن الله إصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى هاشما من قريش ، واصطفانى من بنى هاشم"[3]. وقال عليه الصلاة والسلام:" إن الله خلق الخلق وجعلهم فرقتين ، فجعلنى فى خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلنى فى خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلنى فى خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً"[4].

وقد حفظ الله تعالى نسبه الشريف من الانحرافات الخلقية ، فلم يتسلل إليه شيئ من أدران الجاهلية ، فلم يزل عليه الصلاة والسلام ينتقل من أصلاب آباء طاهرين ، إلى أرحام أمهات طاهرات ، حتى اختاره الله حبيبا طاهر النسب ، قال عليه الصلاة والسلام : "ولدت من نكاح ، ولم أولد من سفاح[5]. وفي ذلك دلالة واضحة على أن العناية الإلهية كانت تصحبه عليه الصلاة والسلام حتى قبل مولده. ولله در الإمام البصيري إذ يقول:

لم تزل في ضمائرِ الكونِ تـُختارُ   لك الأمهـاتُ والآبـــــاءُ
تتباهى بك العصـــــورُ وتسمـو   بك علياءٌ بعدَها عليــــاءُ
وبـدا للوجـــــودِ مـنك كــــريم    مِن كريمٍ آباؤهُ كـُرَمــــاءُ
نسبٌ تحسِبُ العـُـــلا بـِحُــــلاهُ    قلـّدَتـْها نجومَها الجوزاءُ


ثانيا: حمل آمنة الزهرية بمولد خير البرية

تشرفت السيدة آمنة بحمل خير البرية وسيد الأنام :

فَهَنيئًا به لآمنَةَ الفَضْلُ الذي شُرّفَتْ به حَوّاءُ
مَنْ لحَوّاءَ أنّها حَمَلَتْ أحْمَدَ أَوْ أَنّها به نُفَسَاء

ولما حملت به أمه آمنة لم تشعر بما تشعر به النساء الحوامل عادة ، كالثقل ونحوه من أعراض الحمل ، وأتاها آت من قبل الله تعالى فبشرها بأنها قد حملت بنبي هذه الأمة ، وكل ذلك من دلائل وبشائر نبوته عليه الصلاة والسلام ، جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد ، أن آمنة بنت وهب كانت تقول: 

" ما شَعَرْتُ أَنِّي حَمَلْتُ بِهِ ، وَلا وَجَدْتُ لَهُ ثُقْلَةً كَمَا تَجِدُ النِّسَاءُ ، إِلا أَنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ رَفْعَ حَيْضَتِي ، وَرُبَّمَا كَانَتْ تَرْفَعُنِي وَتَعُودُ  ، وَأَتَانِي آتٍ وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ ، فَقَالَ : هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكِ حَمَلْتِ ؟ فَكَأَنِّي أَقُولُ : مَا أَدْرِي ، فَقَالَ : إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا ، وَذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ ، قَالَتْ : فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقَّنَ عِنْدِي الْحَمْلَ ، ثُمَّ أَمْهَلَنِي حَتَّى إِذَا دَنَا وِلادَتِي أَتَانِي ذَلِكَ الآتِي فَقَالَ : قُولِي : أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ الصَّمَدِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ..."[6] . وقالت أيضا :".. فما وجدت له مشقة حتى وضعته"[7].  

ثالثا: تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم:

أما تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم فقد اختلف فيه ، فقيل ولد في 12 ربيع الأول وهو المشهور ، والراجح أنه ولد في صبيحة يوم الإثنين 9 ربيع الأول الموافق لـــ: 20  أفريل 571 م [8]، ويسمى ذلك العام بعام الفيل ، وهو العام الذي حول فيه الملك اليمني أبرهة الأشرم هدم الكعبة الشريفة ، فرده الله عز وجل بتلك الآية  الباهرة، التى ورد ذكرها في سورة الفيل. 

رابعا: سر ولادته صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين وفي شهر ربيع الأول:

سئل عليه الصلاة والسلام عن صومه الاثنين فقال : " ذلك يوم ولدت فيه" [9]. وفي ولادته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وفي شهر ربيع الأول سر وحكمة ،  فلم تكن ولادته - مثلا - في شهر رمضان وهو سيد الشهور وأفضلها وفيه  أنزل القرآن ؟ ولا في يوم الجمعة وهو سيد الأيام وأفضلها وفيه خلق آدم ؟ ولعل السر في ذلك أنه لما كان يوم الاثنين سببا لإيجاد أسباب الحياة المادية ، جعله الله كذلك سببا لإيجاد الحياة المعنوية ، فأخرج فيه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الوجود ، مما يدل على أنه لا حياة للعالم بغير محمد صلى الله عليه وسلم.فهو كالغذاء بالنسبة لأجسادنا بل حاجتنا إلى أشد من حاجتنا إلى الطعام والشراب ، 
قال الحاكم أبو أحمد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وهاجر من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، قيل: إن يوم الاثنين فيه خلق الله أسباب الحياة المادية من أقوات وأرزاق، فجعله كذلك يوم خلقِ أسباب الحياة المعنوية بخلق وولادة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم"[10]

وكذلك شهر ربيع الأول هو الشهر الذي تنشق فيه الأرض عما في باطنها ، من نعم الله وأرزاقه التي بها قوام حياة العباد وصلاح أحوالهم ، فولادته صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم وهذا الشهر باعثة على البشرى والتفائل ، والله تعالى أعلى وأعلم بأسرار اخيتاره.

خامسا: مكان مولده صلى الله عليه وسلم وحاضنته وأول من أرضعته 

كانت ولادته صلى الله عليه وسلم في دار أبي طالب بشعب بني هاشم ( بمكة المكرمة ) ، وكانت قابلته الشِّفاء أم عبد الرحمن بن عوف، ولما ولد أرسلت أمه لجده عبد المطلب تبشره ، فأقبل مسرورًا وسماه محمدًا ، ولم يكن هذا الاسم شائعًا عند العرب من قبل[11].

وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية ، جارية أبيه عبد الله ، وأول من أرضعته -  بعد أمه بأسبوع ـ  ثُوَيْبَةُ جارية عمه أبي لهب ، أرضعته مع ابن لها يقال له (مَسْرُوح) ، وكانت قد أرضعت قبله عمه (حمزة) ، وأرضعت بعده (أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي)[12]. وروي أن أبا لهب أعتقها لما بشرته بميلاد محمد عليه الصلاة والسلام ، وأنه يُخفف عنه العذاب كل يوم اثنين ؛ لفرحه  بالنبي صلى الله عليه وسلم[13] . وفي ذلك أنشد  ابن ناصر الدين الدمشقي قائلا [14]:

إذا كان هـــــــذا كافرا جـاء ذمـه    وتبت يـداه في الجحـيم مخـلدا
أتى أنـه في يـــــوم الاثنين دائـما    يخفف عنه للسـرور بأحــمــدا
فما الظن بالعبد الذي طول عمره    بأحمد مسرورا ومات موحـــدا

سادسا: بعض الارهاصات التي ظهرت عند مولده صلى الله عليه وسلم

وقد ظهرت عند مولده عدة إرهاصات ، والمراد بها تلك الأمور غير  العادية ، الخارقة للنواميس الكونيَّة والسنن الطبيعية ،  فهذه إن وقعت قبل البعثة  سميت إرهاصات ، وإن وقعت بعدها سميت معجزات ، وإن وقعت لغير الأنبياء سميت كرامات ،  ومن الإرهاصات التي وقعت عند مولده صلى الله عليه وسلم :

  -1 أن رأت أمه آمنة كأنما نور خرج منها – عند وضعه - أضاءت له قصور الشام  ، وفي ذلك إشارة إلى ما جاء به صلى الله عليه وسلم من النور الذي اهتدى به أهل الأرض ،  وبدد الظلمات التي أحاطت بالناس في مختلف مناحي حياتهم، كما قال الله تعالى: " قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ"[15] وقال تعالى:" ... لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ .. " [16]. وخاطبه ربه بقوله : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا"[17].  فوصفه بالسراج المنير الذي يجلو الظلمات ، ويكشف الشبهات ، وينير الطريق ، فكان صلى الله عليه وسلم وما جاء به من النور كالسراج المنير في الظلمات  ، ومن هنا تعلم أن ولادته عليه الصلاة والسلام  على نوعين: ولادة بشرية ترابية ، وولادة نورانية.

  2- لم يقع صلى الله عليه وسلم عندما  وضعته  أمه كَمَا يَقَعُ الصِّبْيَانُ ، بل وَقَعَ وَاضِعًا يديه بِالْأَرْضِ ، ورَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ، قالت أمه آمنة : " لَقَدْ وَلَدْتُهُ حِينَ وَلَدْتُهُ ، فَخَرَّ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ، رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ"[18].

3- وعند ولادته صلى الله عليه وسلم اضطرب إيوان كسرى - أي قصره - حتى سُمع صوته ، وسقطت منه  أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً  ، كما خمدت نار فارس ولم تُنطفئ قبل ذلك بألف عام ، وغاضت بحيرة ساوة  ، يعني جف ماؤها ، كما قال البصيري رحمه الله: 

وسـاءَ سـاوَةَ أنْ غاضَتْ بُحَيرَتُهَـا    وَرُدَّ وارِدُهَـا بــالغَيْظِ حينَ ظَـمِي

يعني أنه قد أحزن أهلَ مدينة ساوة ما حل ببحيرتهم ، إذ غار ماؤها في الأرض ونضب حتى صارت يبسا ، ورجع من كان يقصدها للشرب غضبان عطشا.
وبحيرة ساوة التي غارت تقع في قرب مدينة ساوة ، وهي بلدة بين طهران وهمذان ، وليست هي البحيرة التي تسمى اليوم بحيرة ساوة ، والواقعة بمحافظة المثنى العراقية قرب نهر الفرات.
وهذه كلها آيات باهرات تنذر بنهاية عهد الشرك ، وتبشر ببداية عهد التوحيد ، فارتجاج إيوان كسرى علامة على زوال ملك كسرى ، وخمود النار علامة على انتهاء دين المجوسية ، وغيض أو غور بحيرة ساوة علامة على فناء الحضارة التي أقامها المجوس.

سابعا: ولادته صلى الله عليه وسلم يتيما وما حوته من حكم وأسرار

ولد الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يتيما ، فقد مات أبوه عبد الله وأمه حامل به لشهرين فحسب ، فاعتنى به جده عبد المطلب ، ولما بلغ السادسة من عمره  ماتت أمه آمنة ، ولما بلغ ثمان سنوات مات جده عبد المطلب هو الآخر ، فتحول إلى كفالة عمه أبي طالب[19].
وليس من قبيل الصدفة أن يولد صلى الله عليه وسلم يتيما ، ثم لا يلبث أن يفقد أمه وجده أيضاً ، فينشأ النشأة الأولى من حياته بعيداً عن تربية الأب ورعايته ومحروماً من عاطفة الأم وحناها ، ولا شك أن الله اختار لنبيه هذه النشأة لحكم وأسرار باهرة ، لعل من أهمها - والله أعلم بسر اخيتاره - :

-1  أن لا يكون للمبطلين سبيل الى إدخال الريبة إلى القلوب ، من خلال إيهام الناس بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قام بدعوته ورسالته بإرشاد وتوجيه من أبيه وجده ، خصوصا إذا علمنا أن جده عبد المطلب كانت له الصدارة والسيادة والرئاسة في قومه ، ومن الطبيعي أن يربي الوالد ولده أو حفيده على ما يحفظ له هذا الميراث [20].   ودفعا لهذه الشبهة المتوقعة اختار الله تعالى هذه النشئة لحبيبه وصفيه من خلقه ، ليتولى رعايته وتنشئته بنفسه جل وعلى ، وكما قال البصيري رحمه الله:

كَفَاكَ بِالْعِلْمِ في الأُمِّيِّ مُعْجِزَة      في الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ في الْيُتُمِ

يعني حسبك من معجزاته الخارقة صلى الله عليه وسلم ما عنده من العلم مع أنه أميّ،ويكفيك من معجزاته ما اشتمل عليه من الاداب والأخلاق العالية مما لم يبلغه أحد ، مع أنه يتيم لم يتلق ذلك عن أب ولا أم.

 2-  مما لا شك فيه أن هناك شريحة كبيرة من الأيتام ، وقد يشعرون بالقهر والحرمان ، وإن لهؤلاء لإسوة حسنة في خير الخلق عليه الصلاة والسلام ، وهى أن الله تبارك وتعالى ما يمنع شيئا إلا ليعطى خيرا منه ، وكما قال ابن عطاء الله السكندرى:

متى فتح الله لك باب الفهم فى المنع عاد المنع هو عين العطاء

يعني أنه إذا قطع الله عنك الأسباب ، كان ذلك لأجل أن يضطرك إليه ، ويهيئك لتلقى العطاء منه مباشرة بغير أسباب ولا حساب ، إن صبرت واحتسبت .

ثامنا : رضاعته صلى الله عليه وسلم وما حدث له في بادية بن سعد

سبق وأن ذكرنا بأن أول من أرضعته بعد أمه هي ثويبة جارية عمه أبي لهب ، ثم استرضع له -  بعد ذلك -  جده عبد المطلب إمرأة من بنى سعد يقال لها حليمة بنت أبى ذؤيب ، واسم زوجها عبد العُزى.
وقد أجمع رواة السيرة أن بادية بنى سعد كانت تعانى من قحط شديد ، وقد يبس الزرع وجف الضرع بسبب ذلك ، ولما صار محمد صلى الله عليه وسلم فى منزل حليمة ، اخضرت الأرض من حول منازلها ، وصارت أغنامها تعود إلى الديار شباعا ، وهي ممتلئة الضرع ؛ ببركته عليه الصلاة والسلام[21]. 

وفي هذا دلالة على علوّ شأنه  صلى الله عليه وسلم ورفعة مرتبته عند ربه ، حتى عندما كان صبيا صغيرا، فكان من أبرز مظاهر إكرام الله له ، أن أكرم بسببه بيت حليمة السعدية التى تشرفت بإرضاعه ، ولذلك لا أظن أن  الله تعالى يعذب والدي الرسول الأعظم كما زعم بعضهم بأن والديْه في النار، فإذا كانت بركته ورحمته عليه الصلاة والسلام نالت المكان الذي حل فيه ، فكيف لا تنال الجسم الذي أنبته وأنجبه ؟! وأرجو أن تنالنا هذه البركة وهذه الرحمة بما يعلم الله ما في قلوبنا من المحبة والشوق لجناب سيد الأنام ، وبما خدمناه به من تعطير المقام بذكر مولده عليه الصلاة والسلام.

وقد مكث صلى الله عليه وسلم في بيت حليمة أربع سنوات  ، وحصلت له أثناء ذلك  حادثة شق الصدر  التي رواها مسلم فى صحيحه : أنه صلى الله عليه وسلم:

" أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السّلام وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَهَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ  ، ثمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي مرضعته - فَقَالُواإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ! فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ" يعني متغير اللون. وقَالَ أَنَسٌ ابن مالك: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ[22].وليست الحكمة من هذه الحادثة - والله أعلم بمراده -  إستئصال غدة الشر فى جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لو كان الشر منبعه غدة فى الجسم أو علقة فى بعض أنحائه ، لأمكن أن يصبح الشرير خيّرا بعملية جراحية !  

ولكن يبدوا أن الحكمة الإلهية من هذه الحادثة هى إعلان أمر رسول الله ، وتهيئته للعصمة والوحى منذ صغره بوسائل مادية ؛ ليكون ذلك أقرب الى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته ، فهي عبارة عن عملية تطهير معنوية ، ولكنها إتخذت هذا الشكل المادى الحسّى ؛ ليكون فيه الإعلان الإلهى بين أسماع الناس وأبصارهم . 
وأيّاً كانت الحكمة من ذلك ، فلا ينبغى- وقد ثبت الخبر ثبوتاً صحيحاً- محاولة تأويل الحادثة وإخراجها عن ظاهرها وحقيقتها ، أو محاولة إنكارها كما فعل بعضهم ، ولن تجد من مسوغ لمن يحاول مثل هذا - رغم ثبوت الخبر وصحته - إلا ضعف الإيمان بالله وانطماس البصيرة والعياذ بالله[23]..

وإلى لقاء آخر إن شاء الله (مع طفولته صلى الله عليه وسلم إلى زواجه من خديجة رضي الله عنها )، إلى ذلك الحين استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




[1]  السيرة النبوية لابن هشام ، 1 / 110
[2]  نفسه 1 / 110
[3] رواه مسلم  في صحيحه رقم: (6002)
[4] رواه الترمذي في سننه رقم: (3607)
[5] رواه الطبراني في الكبير رقم :(10812)
[6] الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 98.
[7] نفسه 1 / 98
[8]  انظر: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ، محمد بن عفيفي الخضري ، ص 9
[9]  رواه مسلم  في صحيحه رقم: (1162)
[10]  انظر : جواهر البحار في فضائل النبي المختار ، لإسماعيل النبهاني.
[11]  انظر: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ، محمد بن عفيفي الخضري ، ص 10-11
[12]  نفسه ص11

[13]  انظر: صحيح البخاري ، في كتاب النكاح[70]. باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم[21]. رقم [4813]. وجاء في هذا الحديث : " ... فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرحيبة قال له ماذا لقيت ؟ قال أبو لهب لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة". 

[14]  انظر: مورد الصادي في مولد الهادي ، لابن ناصر الدين الدمشقي
[15] المائدة:15
[16] ابراهيم1
[17] الاحزاب46
[18] رواه عبد الرزاق في "المصنف" (9718(
[19]  انظر: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ، محمد بن عفيفي الخضري ، ص 10-11
[20] انظر: فقه السيرة ، للبوطي ص 45-46
[21] انظر: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ، محمد بن عفيفي الخضري ، ص 10
[22] صحيح مسلم رقم:(261)
[23] انظر : فقه السيرة ، للبوطي ص 56

هناك تعليق واحد:

  1. اللهم افتح على حبيبنا العيد بن زطة فتحا مبينا

    ردحذف