......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 8 ديسمبر 2016

عبر ودلالات من طفولة ونشأة سيد الكائنات

محامد وترحيب

الحمد لله حق حمده ، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه وإحسانه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و رسوله  ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد/

 الجمع الكريم السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، الشكر موصول لإمام هذا المسجد المبارك وطاقمه الموقر ، الذين شرفونا بهذا الدعوة ، لإجل تقديم محاضرة بمناسبة المولد النبوي الشريف ، فنسأل الله تعالى أن يجزيَهم على إحسانهم بالحسنى ، ونسأله تعالى أن يبارك في جميع الحاضرين والحاضرات ، وأن يجعل هذا المجلس المبارك في ميزان حسناتهم يوم القيامة ، كما نسأله تعالى أن يجعل شهر ربيع الأول فاتحة خير وبركة علينا وعلى جزائرنا الحبيبة ، وعلى أمتنا العربية والإسلامية قاطبة ، اللهم آمين.

وقد طلب مني إمام المسجد المحترم أن أتكلم عن طفولة النبي صلى الله عليه وسلم ونشأته وزواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها ، ولقد آثرت أن أدرج ذلك كله ضمن العنوان الآتي :

"عبر ودلالات من طفولة ونشأة سيد الكائنات"

فاللهم صل وسلم وبارك عليه

مقدمة هامة في بيان المخاطر التي تحيط بالأمة وأهمية معرفة السيرة النبوية

إننا حينما نقف في رحاب سيرة خير البرية ، تسحر عقولَنا ملامحُ عبقريته ، وآدابه الرفيعة العلية ، التي تميزت بها شخصيته الطاهرة الزكية ، في مختلف مراحل نشأته وحياته ، صلى الله عليه وسلم ، وما أحوج أبناءنا وبناتنا إلى التعرف على طفولته  - صلى الله عليه هوسلم - ونشأته وشبابه ؛ ليأخذوا منها الدروس والعبر ، ويتخذوها نبراسا مضيئا في شتى مناحي حياتهم ، لاسيما في هذه المرحلة الصعبة ، التي تكالبت فيها طوائف الشيطان ، المدعومة من قِوى الشر والطغيان ، واجتمعت كلمتهم جميعا على سلخ شبابنا عن هُويتهم ، وقيمهم وأصالتهم  ، وصدهم عن دينهم ، كما قال الله جل ثناؤه : "وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً "[1]. وهذا النص ينطبق بعموم لفظه على تلك الطوائف التي تحاول اليوم غزو بلادنا ، بعقائدها الضالة وأفكاؤها الهدامة ، وهذه البلاد هي  بلاد الشهداء الأبرار ، وبلاد النبي المصطفى المختار، التي خرج رجالها وحرائرها أيام الاستقلال مرددين ذلك الشعار ، الذي تهتز له الجبال هزا: ( يا محمد مبروك عليك الجزائر عادت إليك ) ، فمن الحماقة أن تحاول هذه الطوائف اليوم - من أحمدية ونصرانية وشيعة ووهابية - نقض أركان وَحدتنا الوطنية ، أوالعبثَ بمرجعيتنا الفقهية والعقدية والسلوكية ، أوصدنا عن نهج خير البرية ،  لاجرم أنها محاولات يائسة ، سينقلب ماكروها خاسئين (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، وسيتحقق في الكفرة منهم وعيده جل وعلا :"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ثُمَّ يُغْلَبُونَ"[2].

ولكن هذا متوقف على مدى تمسكنا بسنة نبينا – صلى الله عليه وسلم – وافتفائنا لآثاره الطيبة ، كما قال سيدنا  الْجُنَيْدَ رضي الله عنه : "الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ ، إِلا مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَلَزِمَ طَرِيقَتَهُ ، فَإِنَّ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهِ "[3]. 

فاتباعه صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره مأمن لنا من عذاب الدنيا والآخرة ، واقرأوا إن شئتم :" وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ "[4].  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ أنت فيهم في حياتك، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وسُنَّتك قائمةٌ فيهم بعد مماتك ، فإذا كانت سُنة النبي صلى الله عليه وسلم مطبَّقةً في بيوتنا ، في أعمالنا ، في أفراحنا وأتراحنا ، فقد أمنا أنفسنا وأهلينا وأوطاننا من العذاب.
ورحم الله سيدنا البصيري إذ يقول:

هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ        لِكلِّ هَـــــوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحَــمِ
دَعا إلى اللهِ فالمُسْتَمْسِكُـــونَ بِهِ        مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلٍ غيرِ مُنْفَصِــــمِ

ومن هنا تعلمون - أيها السادة والسيدات - أن العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم  فرضُ عينٍ على كل مسلم ومسلمة ، كالصلاة والصيام ... قد يقول قائل ولماذا العلم بالسيرة فرض علينا ؟ وما دليل ذلك ؟ والجواب : أن الله قال: " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .." [5].  يعني قدوة حسنة ، والاقتداء أو التأسي به صلى الله عليه وسلم  واجب بالإجماع ، ولن يكون صلى الله عليه وسلم  قدوة وأسوة لنا ما لم نعرف سيرته ، والقاعدة الأصولية تقول : (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، والنتيجة : أن الاقتداء بالنبي واجب ، والاقتداء لا يتم إلا بمعرفة سيرته وأحواله .. إذن : فالعلم بسيرته صلى الله عليه وسلم واجب ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم قدوة للعالمين منذ صباه ، وإلى أن توفاه الله.

وفي هذه المحاضرة سنقف - بإيجاز - مع بعض محطات طفولته ونشأته صلى الله عليه وسلم ، أقدمها لكم مقرونة بالعبر والدروس المستفادة منها – وهذا هو الأهم - ثم نختمها بزواجه من خديجة  رضي الله عنها.

أولا : اختياره صلى الله عليه وسلم من أشرف القبائل وأطهر البطون

من دلائل اصطفاء الله لنبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم أن اختاره من أفضل القبائل العربية ، وأشرف الأسر الهاشمية ،  قال عليه الصلاة والسلام:" : إن الله إصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى هاشما من قريش ، واصطفانى من بنى هاشم"[6].  
فهو عليه الصلاة والسلام خيار من خيار من خيار ... (ورك يخلق ما يشاء ويختار).    
وأيضا أن الله تعالى حفظ نسبه الشريف من الانحرافات الخلقية ، التي كانت منتشرة في الجاهلية ، فلم يتسلل منها شيء إلى نسبه الشريف ، فلم يزل عليه الصلاة والسلام ينتقل من أصلاب آباء طاهرين ، إلى أرحام أمهات طاهرات ، حتى اختاره الله حبيبا طاهر النسب ، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام" : ولدت من نكاح ، ولم أولد من سفاح" [7].
ودلالة ذلك واضحة ، وهي :  أن العناية الإلهية كانت تصحبه عليه الصلاة والسلام حتى قبل مولده ، ولله در الإمام البصيري إذ يقول:
لم تزل في ضمائرِ الكونِ تـُختارُ   لك الأمهـاتُ والآبـــــاءُ
تتباهى بك العصـــــورُ وتسمـو   بك علياءٌ بعدَها عليــــاءُ

ومن تمام هذه العناية التي كانت تصحبه عليه الصلاة والسلام قبل مولده أن أمه آمنة لم لم تشعر بما تشعر به النساء الحوامل عادة ، كالثقل ونحوه من أعراض الحمل ، وأتاها آت من قبل الله تعالى فبشرها بأنها قد حملت بنبي هذه الأمة ، وهذا كله كما قلنا  من دلائل وبشائر نبوته عليه الصلاة والسلام ، جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد ، أن آمنة بنت وهب كانت تقول

" ما شَعَرْتُ أَنِّي حَمَلْتُ بِهِ ، وَلا وَجَدْتُ لَهُ ثُقْلَةً كَمَا تَجِدُ النِّسَاءُ  ... وَأَتَانِي آتٍ وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ ... فَقَالَ : إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا ، وَذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ..."  وقالت أيضا : ".. فما وجدت له مشقة حتى وضعته"[8].

ثانيا:سر ولادته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وفي شهر ربيع الأول

لقد اختلف علماء السيرة في تحديد تاريخ ولادته عليه الصلاة والسلام ، فقيل ولد في 12 ربيع الأول وهذا هو المشهور ، وقيل غير ذلك ، وأرجح الأقوال  أنه ولد في صبيحة يوم الإثنين 9 ربيع الأول الموافق لـــ: 20  أفريل 571 م ، ويسمى ذلك العام بعام الفيل ، وهو العام الذي حول فيه الملك اليمني أبرهة الأشرم هدم الكعبة الشريفة ، فرده الله عز وجل بتلك الآية  الباهرة ، التى ورد ذكرها في سورة الفيل. 

وولادته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وفي شهر ربيع الأول مقطوع بها ، يعني أنه لا خلاف فيها ،  وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن صومه ليوم الاثنين فقال : " ذلك يوم ولدت فيه"[9].   

 وفي ولادته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وفي شهر ربيع الأول سر وحكمة ،  فلم تكن ولادته - مثلا - في شهر رمضان وهو سيد الشهور وأفضلها وفيه  أنزل القرآن.. ؟ ولا في يوم الجمعة وهو سيد الأيام وأفضلها وفيه خلق آدم .. ؟ ولعل السر في ذلك ما ذكره الحاكم أبو أحمد ، قال: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وهاجر من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، قيل: إن يوم الاثنين فيه خلق الله أسباب الحياة المادية من أقوات وأرزاق، فجعله كذلك يوم خلقِ أسباب الحياة المعنوية بخلق وولادة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم"[10].   

يعني أن الله خلق أسباب الحياة المادية يوم الاثنين – من أقوات وأرزاق - وأخرج نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الوجود يوم الاثنين ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو السبب في إيجاد الحياة المعنوية ، فلا حياة للعالم من دونه صلى الله عليه وسلم ، فهو لأرواحنا كالغذاء لأجسادنا ، بل حاجتنا إليه أشد من حاجتنا إلى الطعام والشراب ، ومما يؤيد هذه الحقيقة قوله تعالى :"  أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ" [11].    فالحياة المذكورة في الآية هي حياة معنوية ، وإنما حصلت تلك الحياة بالنور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

وما يقال في يوم الاثنين يقال أيضا في شهر ربيع الأول ، فهو الشهر الذي تنشق فيه الأرض عما في باطنها ، من نعم الله وأرزاقه التي بها قوام حياة العباد وصلاح أحوالهم ، فولادته صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم وهذا الشهر باعثة على البشرى والتفائل ، والله تعالى أعلى وأعلم بأسرار اخيتاره.

ثالثا : ولادته صلى الله عليه وسلم بشرية ونورانية

معلوم أنه صلى الله عليه وسلم ولد في دار أبي طالب بشعب بني هاشم ( بمكة المكرمة ) ، وكانت قابلته الشِّفاء أم عبد الرحمن بن عوف، ولما ولد أرسلت أمه لجده عبد المطلب تبشره ، فأقبل مسرورًا وسماه محمدًا ، وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية ، جارية أبيه عبد الله ، وأول من أرضعته -  بعد أمه بأسبوع ـ  ثُوَيْبَةُ جارية عمه أبي لهب .... وتلك  أمور معلومة في كتب السيرة ، وهي المقصودة بالولادة البشرية.

ولكن ما أردت لفت الانتباه إليه هو ما عبرت عنه بالميلاد النوراني أو الولادة النورانية ، وذلك أنه قد ثبت أن أمه آمنة رأت - عند وضعه - كأنما نور خرج منها أضاءت له قصور الشام  ، هذا هو الميلاد النوراني الذي ينبغي أن نفقهه ونستفيد منه في واقع حياتنا، والذي يتضمن  الإشارة إلى ما جاء به صلى الله عليه وسلم من النور،  الذي استنارت به الأكوان ،  وتبددت به  الظلمات التي أحاطت بالناس في مختلف مناحي حياتهم ، كما قال الله تعالى: " قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ"[12]. وكما قال تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[13]. فانظر إلى قوله تعالى (وَسِرَاجًا مُنِيرًا) ، ولم يقل كالسراج المنير ؟ فحذف أداة التشبيه وهي (الكاف) ، وهذا يسمى في علم البلاغة بالتشبيه بالبليغ ، فحقيقة محمد صلى الله عليه وسلم أنه :(سراج منير) منير للعالم بأسره ، ويجلو الظلمات عن الدنيا كلها ، ومن هنا تعلمون - أيها الإخوة والأخوات -  أن ولادته عليه الصلاة والسلام  على نوعين: ولادة بشرية ترابية وولادة نورانية ، وإنه لمن الحماقة والغباوة .. أن تعيش أمتنا العربية والإسلامية في هذه الظلمات المتراكمة ، وهذه الخصومات الملتهبة ، وهذه الأزمات الخانقة ، وهي تملك سراجا منيرا ، لم يمت بموته صلى الله عليه وسلم ، بل هو باق إلى يوم الدين ، وقد قال عنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " وَتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ " [14].  ولكن أمتنا بدل أن تستضيئ بنور هذا السرا ج المنير ، تنكرت له وراحت تلتمس الضوء شرقا وغربا فلم تعد بطائل .   

رابعا : الأنوار المحمدية تزلزل العروش الكسروية وتبيد الحضارة المجوسية

ثبت أنه عند ولادته صلى الله عليه وسلم اضطرب إيوان كسرى - أي اهتز قصره وعرشه - حتى سُمع صوته ، وسقطت منه  أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً  ، كما خمدت نار فارس ولم تُنطفئ قبل ذلك بألف عام ، وغاضت بحيرة ساوة  ، يعني جف ماؤها ، كما قال سيدنا البصيري رحمه الله: 

وسـاءَ سـاوَةَ أنْ غاضَتْ بُحَيرَتُهَـا    وَرُدَّ وارِدُهَـا بــالغَيْظِ حينَ ظَـمِي

يعني أنه قد أحزن أهلَ مدينة ساوة ما حل ببحيرتهم ، إذ غار ماؤها في الأرض حتى صارت يبسا ، ورجع من كان يقصدها للشرب غضبان عطشا.
وبحيرة ساوة التي غارت تقع في قرب مدينة ساوة ، وهي بلدة بين طهران وهمذان ، وليست هي البحيرة التي تسمى اليوم بحيرة ساوة ، والواقعة بمحافظة المثنى العراقية قرب نهر الفرات.

وهذه كلها آيات باهرات تنذر بنهاية عهد الشرك ، وتبشر ببداية عهد التوحيد ، فارتجاج إيوان كسرى علامة على زوال ملك كسرى ، وخمود النار علامة على انتهاء دين المجوسية ، وغيض أو غور بحيرة ساوة علامة على فناء الحضارة التي أقامها المجوس.

ولو أن أمتنا اليوم استضاءت بنور محمد عليه الصلاة والسلام  ، لزلزلت العروش الصهيونية والأمركية والإلحادية وغيرَها ... ولأخمدت نيرانهم العدائية ، وجففت منابعهم الإقتصادية ، كما جفت بحيرة ساوة وغار ماؤها حينما برزت الأنوار المحمدية ... ولو أننا اعتصمنا بنور محمد لفرت من جزائرنا شياطين الأحمدية والشيعة والنصرانية .... كما فر الشيطان عند ولادة محمد عليه الصلاة والسلام  إلى الأرض السابعة.

خامسا : في ولادته صلى الله عليه وسلم ييتما حكمة بالغة

لقد لد الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يتيما ، فقد مات أبوه عبد الله وأمه حامل به لشهرين فحسب ، فاعتنى به جده عبد المطلب ، ولما بلغ السادسة من عمره  ماتت أمه آمنة ، ولما بلغ ثمان سنوات مات جده عبد المطلب هو الآخر ، فتحول إلى كفالة عمه أبي طالب.

هكذا نشأ صلى الله عليه وسلم النشأة الأولى من حياته ، بعيداً عن رعاية أبيه وحنان أمه ، ولا شك أن الله اختار لنبيه هذه النشأة لحكم وأسرار باهرة ، لعل من أهمها -  كما قال فضيلة أستاذنا البوطي رحمه الله - [أن لا يكون للمبطلين سبيل الى إدخال الريبة إلى القلوب ، من خلال إيهام الناس بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قام بدعوته ورسالته بإرشاد وتوجيه من أبيه وجده ، خصوصا إذا علمنا أن جده عبد المطلب كانت له الصدارة والسيادة والرئاسة في قومه ، ومن الطبيعي أن يربي الوالد ولده أو حفيده على ما يحفظ له هذا الميراث ] [15].

ودفعا لهذه الشبهة المتوقعة اختار الله تعالى هذه النشئة لحبيبه وصفيه من خلقه ، ليتولى هو رعايته وتنشئته بنفسه جل وعلا ، وكما قال البصيري رحمه الله:

كَفَاكَ بِالْعِلْمِ في الأُمِّيِّ مُعْجِزَة      في الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ في الْيُتُمِ

يعني حسبك من معجزاته الخارقة صلى الله عليه وسلم ما عنده من العلم مع أنه أميّ ، ويكفيك من معجزاته صلى الله عليه وسلم ما بلغه من الاداب الرفيعة ، مع أنه يتيم لم يتلق ذلك الأدب عن أب ولا أم.
وفي ولادته صلى الله عليه وسلم يتيما إسوة حسنة لفئة الأيتام ، وهي أن الله تبارك وتعالى ما يمنع شيئا إلا ليعطي  خيرا منه ، كما قال سيدنا ابن عطاء الله السكندرى:

متى فتح الله لك باب الفهم فى المنع عاد المنع هو عين العطاء

يعني أنه إذا قطع الله عنك الأسباب ، كان ذلك لأجل أن يضطرك إليه ، ويهيئك لتلقى العطاء منه مباشرة بغير أسباب ولا حساب.

سادسا : بركته عليه الصلاة والسلام تنال منازل حليمة السعدية

سبق وأن ذكرنا بأن أول من أرضعته بعد أمه هي ثويبة جارية عمه أبي لهب ، ثم استرضع له -  بعد ذلك -  جده عبد المطلب إمرأة من بنى سعد يقال لها حليمة السعدية بنت أبى ذؤيب.

وقد أجمع علماء السير على أن بادية بنى سعد كانت تعانى من قحط شديد ، وقد يبس الزرع وجف الضرع بسبب ذلك ، ولما صار محمد صلى الله عليه وسلم فى منزل حليمة ، اخضرت الأرض من حول منازلها ، وصارت أغنامها تعود إلى الديار شباعا ، وهي ممتلئة الضرع ؛ ببركته عليه الصلاة والسلام.  

وفي هذا دلالة على علوّ شأنه  صلى الله عليه وسلم ، ورفعة مكانته عند ربه ، حتى عندما كان صبيا صغيرا، فأكرم الله بسببه بيت حليمة السعدية التى تشرفت بإرضاعه ، ولذلك لا أظن أن  الله تعالى يعذب والدي الرسول الأعظم كما زعم عشاق تعذيب العباد بأن والديْه في النار، فإذا كانت بركته ورحمته عليه الصلاة والسلام قد نالت المكان الذي حل فيه ، فكيف لا تنال الجسم الذي أنبته وأنجبه ؟! وأرجو أن تنالنا هذه البركة وهذه الرحمة بما يعلم الله ما في قلوبنا من المحبة والشوق لجنابه عليه الصلاة والسلام.

سابعا : تهيئته صلى الله عليه وسلم للنبوة بوسائل حسية

مكث صلى الله عليه وسلم في بيت حليمة أربع سنوات  ، وحصلت له أثناء ذلك  حادثة شق الصدر المشهورة  التي رواها مسلم فى صحيحه : أنه صلى الله عليه وسلم:

 " أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السّلام وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَهَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ  ، ثمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي مرضعته - فَقَالُواإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ! فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ" يعني متغير اللون. وقَالَ أَنَسٌ ابن مالك: "  وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ "  [16].

تعتبر هذه الحادثة من إرهصات نبوته عليه الصلاة والسلام ، والمراد بالإرهاصات تلك الأمور غير  العادية ، الخارقة للنواميس الكونيَّة والسنن الطبيعية ،  فهذه إن وقعت قبل البعثة  سميت إرهاصات ، وإن وقعت بعدها سميت معجزات ، وإن وقعت لغير الأنبياء سميت كرامات.

وعلى الرغم من ثبوث حادثة شق الصدر بالحديث الصحيح ، إلا أن ذوي القلوب المريضة راحوا ينكرونها ، ويثيرون حولها الشبهات والتلبيسات الإبليسية ، كما فعل صاحب كتاب (رسول الله والقلوب المريضة) ، والحقيقة أن هذا العنوان ينطبق على كاتبه تماما ، لأنه  لا مسوغ لمن يحاول انكار هذه المكرمة الإلهية - رغم ثبوت الخبر وصحته - إلا انطماس البصيرة والعياذ بالله ، وقديما قال الشاعر الحكيم :

قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم

لأن نزع تلك العلقة من قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليست عملية جراحية ؛ لإستئصال غدة الشر من جسمه الشريف  عليه الصلاة والسلام  ؛ إذ لو كان مصدر الشر علقة أو غدة فى جسم الإنسان ،   لأمكننا – وقد تطور العلم -  أن نحول الكفرة الفجرة إلى مؤمنين بررة ، بإجراء عمليات جراحية لنزع غدد الشر من أجسامهم !؟

وإنما الحكمة الإلهية من هذه الحادثة هى - والله أعلم - تهيئة النبي صلى الله عليه وسلم للنبوة منذ صغره بوسائل مادية مرئية للناس ؛ حتى إذا ما أعلن صلى الله عليه وسلم  أمر نبوته للناس سهل عليهم تصديقه؛ لما يعلمون من إرهاصاتها وبشائرها منذ أن كان عليه الصلاة السلام صبيا.

ثامنا : رحلته الأولى إلى الشام مع عمه أبي طالب

روي أن أبا طالب خرج في رحلة تجارية الى الشام ، واصطحب  معه محمدا عليه الصلاة والسلام ، وكان عمره حينئذ 12 سنة ، وأثناء رحلتهم مرّوا على راهب  يقال له (بَحِيرَى) ، وكان على علم بكتب الإنجيل  ، وما جاء فيها من بشائر بعثة نبي آخر الزمان ، وأوصافه وعلاماته ، فشرع بَحِيرَى يتأمل النبى صلى الله عليه وسلم ويتفرسه ويحاوره ... ثُمّ نَظَرَ إلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ (وهو عبارة عن قطعة لحم ناشزة بين كتفيه  كبيضة الحمامة فيها شعيرات مجتمعات) ، ثم سأل بَحِيرَى أَبا طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ : مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْك ؟ قَالَ ابْنِي (وكان ابو طالب يدعو محمدا بابنه لكونه في كفالته) قَالَ لَهُ بَحِيرَى : مَا هُوَ بِابْنِك ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيّا ، قَالَ فَإِنّهُ ابْنُ أَخِي ، قَالَ فَمَا فَعَلَ أَبُوهُ ؟ قَالَ مَاتَ وَأُمّهُ حُبْلَى بِهِ ، قَالَ صَدَقْت ، فَارْجِعْ بِابْنِ أَخِيك إلَى بَلَدِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ ؛ فَوَاَللّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْت لِيَبْغُنّهُ شَرّا ، فَإِنّهُ كَائِنٌ لَابْن أَخِيك هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ ، فأسرع أبو طالب عائدا به إلى مكة[17].  

ومن أهم ما يستفاد من هذه الحادثة أن أهل الكتاب – يهودا كانوا أو نصارى – كانوا على علم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى دراية تامة بأوصافه وعلاماته ، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، كما قال تعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ "[18] .

ولذلك فتكذيبهم برسالته قديما وحديثا ، وإساءاتهم المتكررة إلى شخصه الكريم ، كتلك التي أعقبت حادثة  (شارلي إبدو) وما أشبهها ... فلم يكن شيء من ذلك ناشئا عن جهل منهم بنبوته وسمو مكانته ،  وإنما كان ذلك بدافع الغيظ والكبر والحسد ، وهذه العة ذاتها هي التي حرمت كبراء قريش من الإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم :" وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ"[19]. فالنفوس العليلة – دائما - تضيق وتختنق من شدة الغيظ ؛ عندما ترى إنسانا اكتملت في نفسه خصائص العظمة ، وتكاثرت عليه مواهب الله ونعمه ، فلن تستريح تلك النفوس العليلة حتى تزول النعمة، أو تنطفئ معالم العظمة ، أو يتحقق الإخفاق لأصحابها ،  ولكن هيهات أن يتم لهم ذلك ؛ فقد اقتضت حكمة الباري جل ثناؤه أن تتكاثر النعم على المحسود ، وأن تأكل نار الحسد أصحابها ، كما قال الشاعر الحكيم:

إن يحسدونني فإني غير لائمهـم     غيري من الناس أهل لفضل قد حسدوا
فدام لي ولهـــم ما بي وما بهموا     ومات أكثــرنا غيـظا مــــــا يجـــــــدوا

تاسعا : إقباله صلى الله عليه وسلم على العمل واكتساب الرزق

وحين استقبل سول الله صلى الله عليه وسلم فترة شبابه ، انطلق في الكدح والسعي لكسب قوته  ورزقه ، واختار مهنة رعي الغنم التي قد لا تخطر على بال شبابنا اليوم فضلا عن مزاولتها حقيقة ، قال عليه الصلاة والسلام: " مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ " [20].  

ومن أهم الدلائل التي تستفاد من هذه المحطة من شبابه  صلى الله عليه وسلم [21]:
1- لقد كان الله قادرا على أن يهىء لحبيبه وصفيه صلى الله عليه وسلم كل وسائل العيش وأسباب الرفاهية ، ولكنه اختار له هذه النشأة ؛ ليبين لنا أن العمل شرف وعبادة ، وأنه ليس من شأن الرجال النبلاء أن يقعدوا عن العمل ويعيشوا عالة على غيرهم ، على نحو ما قاله الشاعر الحكيم :

نهارُك بَطّــــالٌ وليلُك نائمٌ     كذلك في الدنيا تعيشُ البهائمُ

فاقباله صلى الله عليه وسلم في فترة شبابه على العمل ، فيه بيان للحياة المرضية التي ينبغي أن يحياها شاب الإسلام ، وأن خير أموالنا ما نكسبه بكد يميننا وعرق جبيننا ، ومقابل  ما نقدمه من منافع وخدمات  لوطننا ومجتمعنا ، وأن شر المال ما يكسبه الإنسان وهو مستلق على ظهره ،  دون أن يقدم أدنى فائدة للبلاد والعباد.
2- أما في ما يتعلق بسر رعيه صلى الله عليه وسلم  للغنم ، فإن رعي الغنم من شأنه أن يتيح له صلى الله عليه وسلم هدوء البال الذي تتطلبه نفسه الكريمة ، ويمنحه المتعة بجمال الصحراء،  ويعطيه فرصة التأمل في  مخلوقات الله الدالة على عظمته جل وعلا ، كما يعتبر رعي الغنم نوعا من التربية النفسية ، والتمرن على رعاية الأمة وتدبير شؤونها ، والتعود على التحمل والصبر ، والحلم والأناة ، والرحمة بالضعفاء ، والتجاوز عن ذوي الأخطاء.

عاشرا: حفظ الله له من الانحرافات ومولوثات الجاهلية

كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة شبابه مثلا أعلى للأخلاق النبيلة ، وكان يلقب بين أهل الجاهلية بالأمين ، وقد نال حظا وافرا من الفطنة والفكر الصائب والنظر السديد ،  والبعد عن من مظاهر اللهو والعبث ، التي يجنح لها الإنسان عادة في مرحلة شبابه ، يقول صلى الله عليه وسلم: " ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما ، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام أهله يرعاها: أبصر إليَّ غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة ، كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء، وضرب دفوف ومزامير، فقلت : ما هذا ؟  فقالوا: فلان تزوج فلانة .. فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني ، فما أيقظني إلا حر الشمس ، فرجعت ، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ، ففعل ، فخرجت ، فسمعت مثل ذلك ، فقيل لي مثل ما قيل لي ، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني ، فما أيقظني إلا مس الشمس ، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئًا ، فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته"[22].

ومن أهم ما يستفاد من هذا :

1- أن الله قد عصم نبيه صلى الله عليه وسلم منذ صغره من جميع مظاهر الإنحراف ، وحفظه من كل ما لا يتلائم مع المكانة السامية التي يتبوأها ، ومع مقتضيات الرسالة التي هيأه الله لحملها.
2- يرشدنا هذا إلى أنه لا يليق بالمؤمن أن يجنح إلى تلك المجالس السيئة ، التي تشتمل على الغناء والعزف ، على نحو ما يُفعل في الأعراس عندنا ؛ إذ لو كان ذلك يليق بمقام المؤمن لما صرفه الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، خصوصا إذا علمنا أن الله قد جعله قدوة لنا في مختلف مراحل حياته ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

حادى عشر: تجارته بمال خديجة ثم زواجه منها

وفي الخامسة والعشرين من عمره الشريف خرج صلى الله عليه وسلم  تاجرًا إلى الشام في مال خديجة رضي الله عنها ، وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم ، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه ، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه ، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا،  وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له‏:‏ (ميسرة) فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها  هذا العرض ، وخرج – تاجرا - في مالها ، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام‏[23].‏

وعاد إليها بأرباح وافرة ، وقد قص عليها غلامها ميسرة ما شاهده - اثناء الرحلة - من عظيم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ، فعرضت نفسها عليه ليتزوجها ، بواسطة صديقة لها يقال لها (نفيسة) ، فقبل صلى الله عليه وسلم هذا العرض ، وتقدم لخطبتها بواسطة أعمامه ، فتزوجها وهو وفي الخامسة والعشرين من عمره الشريف ، وهي في الأربعين من العمر ، وكانت قد تزوجت قبله برجلين.

وهذا المقطع من مرحلة شبابه صلى الله عليه وسلم يشتمل على دروس وعبر كثيرة ، نذكر أهمها:

1- يدلنا تأثر خديجة رضي الله عنها بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم على قيمة الأخلاق وأهميتها  وتأثيرها في النفوس ؛ فالتفاف الناس من حول نبينا صلى الله عليه وسلم  وإقبالهم على دعوته طائعين غير مكرهين ، كان من أبرز أسبابه ما اتسم به صلى الله عليه وسلم  من مكارم الأخلاق ،  التي امتدحه الله بها : " وإنك لعلى خلق عظيم ". ومما يؤيد هذه الحقيقة  قوله تعالى :  " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ...". فلو كان محمد – وحاشاه أيكون – إنسانا غليظا سيئ الخلق لنفر الناس من حوله ، وعلتنا نحن اليوم - التي جعلت محل شخرية بين الأمم – ترجع إلى انهيار أخلاقنا في مختلف المجالات ، فعلينا مراجعة أنفسنا حتى لا نكون سببا في تنفير الناس عن الإسلام بسوء أخلاقنا.

2- مكانة السيد خديجة التي تشرفت بالزواج من  خير البرية ، وقد كانت تلقب في الجاهلية بالطاهرة العفيفة ، وثبت أنها أفضل نساء زمانها ، وقد وقفت رضي الله عنها إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم في أصعب الظروف وأشد المواقف حرجا ، وسمي العام الذي توفيت فيه بعام الحزن ، وقد ظل صلى الله عليه وسلم وفيا لها بعد مماتها ، حتى غارت عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وقالت :" ما غرت على نساء النبى صلى الله عليه وسلم إلاّ على خديجة وإنى لم أدركها"[24].

وقالت أيضا : " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ اثْنَى عَلَيْهَا فَاحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا اكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا، حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ ابْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل بِهَا خَيْرًا مِنْهَا. قَالَ: مَا ابْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ امَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِيَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي اوْلادَ النِّسَاءِ "[25].

هكذا ينبغي أن يسود خلق الوفاء بين الرجال والنساء ، فلا المرأة تنسى فضل زوجها ، ولا الرجل يتنكر لفضل زوجته ، كما قال الله تعالى : "وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ"[26].

3- وفي زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة وهي أكبر منه بخمسة عشر عاما ، دلالة على عدم إهتمامه صلى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ، أو انسياقه وراء الشهوات والنزوات ، إذ لو كان مهتما بذلك كبقية أقرانه من الشباب ؛ لتزوج بمن هى أقل منه سناً ، وفي هذا رد قوي على شبهات أولائك المستشرقين، الذين حاولوا التذرع بتعدد زوجات النبي إلى وصفه بالرجل الشهواني ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بأمرة أخرى حتى ماتت خديجة ، وقد ناهز الخمسين من عمره الشريف ، والعمر الذي تتحرك فيه الرغبة إلى الاستزادة من الزوجات ، إنما يكون بين العشرين إلى الخمسين ، فتعين وتأكد أن يكون  زواجه بعد أن تجاوز الخمسين ، لمقاصد وحكم عظيمة ، لا حظ فيها للشهوات والنزوات.

صل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين





[1] النساء89
[2] الانفال36
[4] الانفال33
[5] الاحزاب21
[6] رواه مسلم رقم: (6002)
[7] رواه  الطبراني في الكبير رقم 10812
[9]   رواه مسلم  في صحيحه رقم: (1162)
[10]   انظر : جواهر البحار في فضائل النبي المختار ، لإسماعيل النبهاني.
[11]   الأنعام122
[12] المائدة:15
[13] الاحزاب46
[14]  رواه الطبراني في المعجم الكبير:رقم 2680
[15]  انظر فقه السيرة للبوطي53
[16]  صحيح مسلم رقم:(261)
[17]  سيرة ابن هشام 1 / 180
[18] البقرة146
[19] الزخرف31
[20] رواه البخاري 2262
[21] انظر:  قه السيرة للبوطي 59-60. وفقه السيرة للغزالي 60-61. والسيرة النبوية للصلابي72.
[22] رواه البيهقي في دلائل النبوة رقم 367
[23] سيرة بن هشام 1 / 187
[24] رواه الطبراني وأحمد
[25] رَوَاهُ أَحْمَدُ
[26] البقرة237

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق