......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الجمعة، 6 سبتمبر 2013

أترك لنفسك أثرا ينفعك بعد موتك !!



الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
يقول الله تعالى: "إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" [يس: 12].
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربع حقائق هامة :
1- أنه يحي الموتى 2- وأنه يكتب ما قدّموا في دار الدنيا 3-  وأنه يكتب آثارهم 4- وأنه أحصى كل شيء في إمام مبين ، أي في كتاب بيّن واضح.
كل حقيقة من هذه الحقائق تحتاج إلى إفرادها بخطاب  خاص ، وسنقف في خطاب هذا اليوم مع الحقيقة  الثالثة ، وهي :  كونه سبحانه يكتب آثار العباد ، فالآثار المذكورة في الآية الكريمة ، تشمل الآثار الحسية وهي الخطى ، كما تشمل الآثار المعنوية ، وهي ما يتركه الناس بعدهم من آثار ، فكل ذلك سيكتب، وسيجازى به أصحابه  ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . والدليل على كتابة الآثار الحسية قوله تعالى في حق الغزاة: "ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم " [التوبة:121]. فقد بينت هذه الآية  أن الخطى التي يخطوها الغازي في سبيل الله ستكتب له ، أي يكتب له أجرها وثوابها، ويقاس على ذلك كل خطوة يخطوها المسلم في مرضات الله تعالى ، كالخطى التي يخطوها المسلم في الإصلاح بين الناس .. أو مساعدة المحتاجين وإغاثة الملهوفين .. أو يخطوها إلى المساجد لأداء الصلوات أو لحضور مجالس العلم .. ونحو ذلك ..
و قد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني سلمة يريدون أن ينتقلوا قرب المسجد ، فقال لهم: "دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم"[1].  أي ألزموا دياركم البعيدة تكتب آثاركم ، أي خطاكم إلى المسجد ، فكل خطوة ترفع الماشي درجة ، وتحط عنه خطيئة ، كما جاء في الحديث النبوي الشريف ، فأنتم الآن – أيها الإخوة - جئتم إلى هذا المسجد ، منكم من جاء من قريب ومنكم من جاء من بعيد ،  وسيعطى كل واحد منكم من الأجر على قدر خطواته !! فالقاعدة العامة :
أن كل خطوة تخطوها في مرضات الله تكتب لك بها حسنة كاملة   
والحسنة بعشر أمثالها ، والله يضاعف لمن يشاء . وبالمفهوم المخالف المقرر لدى أرباب الأصول :
 أن كل خطوة تخطوها في سخط  الله تكتب عليك بها سيئة
وإذن : فمن كانت خطواته في سخط الله ، سيكون عليه من الإثم والوزر بقدر خطواته التي خطاها في معصية الله ، فمثلا : هناك من يذهب من هنا إلى تونس ليعصي الله تعالى ،  كم من خطوة من هنا إلى هناك ؟؟ فكل خطوة ستكتب عليه سيئة إن خطاها في معصية الله . هذا بالنسبة لكتابة الآثار الحسية .
وأما الدليل على كتابة الآثار المعنوية فقوله تبارك و تعالى: " لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ " [النحل: 25 ]. فمن أحدث بدعة بين الناس سيكون عليه وزرها ووزر الذين يعملون بها من بعده ، ومن نشر فتنة بين العباد سيكون عليه وزرها ووزر الذين يتبعونه فيها ....والقاعدة العامة :
أن كل من ترك أثرا سيئا فعليه إثمه وإثم من سار عليه من بعده  
ومصداق ذلك في قوله  صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"[2].
هذا وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الرؤوف الرحيم بأمته -  إلى جملة من أنواع البر والخير التي يلحقنا أجرها بعد موتنا. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته"[3].                                             
فمن هذه الأنواع : - التي يلحقنا أجرها بعد موتنا - علم علّمه ونشره بين الناس ؛ ولذلك عظم أجر العلماء وكانوا في مقام الأنبياء .
ومنها أيضا: ولد صالح تركه، وهذا الإطلاق يفيد انتفاع الوالد بولده الصالح سواء دعا له أم لا ، فهو كمن غرس شجرة فأكل منها الناس، فإنه يحصل له الثواب بمجرد الأكل من الشجرة ، سواء دعا له من أكل أم لم يدع. فالوالد ينتفع بصلاح ولده مطلقا ، وكل عمل صالح يعمله الولد فلأبويه من الأجر مثل أجره ، من غير أن ينقص من أجره شيء ؛ لأن الولد من سعي أبيه وكسبه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"[4] . والله عز وجل يقول: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" [النجم:39]. والولد من سعي أبيه .
وهذا يوجب على الآباء أن يجتهدوا في تربية أولادهم ، وإصلاح أحوالهم، حتى ينتفعوا بصلاحهم .
ومنها: مصحف ورثّه: فمن اشترى مصحفا ووضعه في البيت ليقرأ فيه أولاده ، أو وضعه في المسجد ووقفه لله تعالى، فإنه يأتيه من ثواب ذلك المصحف بعد موته ، ويلحق بالمصحف كتب العلم الشرعي كالفقه والتفسير ونحوهما ...
ومنها: مسجد بناه ، فأنتم الآن أمامكم هذه الساجد التي تنتظر دعمكم وتبرعاتكم ، وإذا شاركتم  في بنائها وتشييدها ، فإنكم إذا متم - وستموتون لا محالة - فسيلحقكم أجر هذه المساجد  وثوابها ما بقيت هذه المساجد  قائمة على وجه الأرض ، هذا أمر لا شك فيه ، إن خلصت نياتكم لله تعالى ، فالله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم ، وكل صدقة جارية - أي منفعتها مستمرة - سيكتب لكم أجرها وثوابها ، فما أسعدنا أن نكون ثاويين في قبورنا والثواب يلحقنا !! الأمر بسيط :
إذا أردنا ذلك فلنترك لنا أثرا ينفعنا بعد موتنا
"إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين"
اقرءوا هذه الآية – أيها المؤمنون - وتأملوها وافهموا معناها ،  فإن هذه الآية  ينبغي أن تكتب ويضعها كل مسلم أمامه .. في مكتبه .. في سيارته .. على عتبة  داره .. ليتذكرها في كل حين ، وليتخذ منها منهجا يسير عليه في واقع حياته .
وفقني الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه ، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------


[1] [ أخرجه مسلم في صحيحه ج1/ص462 ح665].
[2] [مسلم في صحيحه ج4/ص2060 ح1017].
[3] [ ابن خزيمة في صحيحه ج4/ص121 ح2490]
[4] [ أخرجه أحمد (6/42].  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق